أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الفعل التأويلي ورهان المغايرة والإضافة

 


الفعل التأويلي ورهان المغايرة والإضافة


       من هذه الزاوية يبدوا أن التأويل هو أبعد ما يكون عن منطق التماهي والمطابقة لأن في ذلك إفقاراً للنصوص والعلامات، وتقزيماً للرموز والإشارات، واختزالاً للأحداث والوقائع. إن كل ذلك    لا يتجدد ويحيا بالالتحام به وإعادة إنتاجه (كما هو)، وإنما بالانفصال عنه قصد محاورته ومساءلته. وعلى هذا الأساس فالفعل التأويلي الحق هو ذلك الذي يوجه صوب منطقة المختلف باحثاً عن العلاقات المفارقة والمعاني الدفينة والدلالات الخفية الكامنة لأجل الانتقال بها من موقع الظل ومنطقة التواري إلى المنجز المعرفي وتدخل سياق التداول الثقافي العام، الأمر الذي يسمح بدخول أفكار جديدة وقراءات مغايرة تُغنى النسق المعرفي (الذي جرت في نطاقه الممارسة التأويلية) جاعلة إياه منفتحاً على آفاق أرحب وأوسع.

       ومن هنا فالتأويل عامة والنقد التأويلي خاصة هو دوماً فعل قراءة توليدي ومنتج يستنبت أسئلة جديدة ضمن النسق الثقافي تقوم بدورها (الأسئلة) بإعادة صياغة آليات القراءة ذاتها[1]، على نحو تصير معه عملية التأويل غير قابلة لأن تتوقف عند مستوى معين، ولا أن تكتفي بالمتحقق، نصًّا أو علامةً أو رمزاً، وتعمل على شريحة وتبيينه، فــــ «من بين الخصائص التداولية للتأويل أنه            لا يستهدف تملك النص واستيضاح غموضه فقط بل إنه يشترط ذلك التملك بتلقيه وتوظيفه من قبل القارئ العام»[2]. مما يعني أنه لا قيمة لتأويل يتوقف فقط عند توضيح دلالات النصوص والعلامات وإزالة غرابتها، ولا يتجاوز ذلك إلى تكييف تلك الدلالات مع الأنساق السائدة مبيأة فيها منسجمة معها.

       هكذا إذن، يتضح أن الأصل في الحاجة إلى التأويل هو عينه ممارسة التأويل، وهذا يرجع إلى أمرين اثنين: أولهما غرابة المعنى عن الأنساق والقيم السائدة، والثاني إيجاد قيم جديدة عبر تأويلات متجددة في مسعى لإرجاع الغرابة إلى ملاءمة وألفة[3]. ومؤدى هذا أن النشاط التأويلي لا يرجع إلى النص إلا لإثرائه وإغنائه ليصبح أكثر تفاعلاً مع الواقع المعرفي الجديد والمحيط الاجتماعي المتحول،  ولا يعود إلى الماضي إلا ليستثمره في الإجابة عن إشكالات الحاضر وتحدياته، من خلال إيجاد مساحات جديدة للتفكير والنظر، وفتح مناطق مغايرة للممارسة والعمل بحيث يُعاد ترميم التصورات، وبناء التمثلات وفق ما يقتضيه مبدأ التغير والتحول الذي يسم جميع الحضارات والثقافات، ومختلف الأفكار والمعارف. وتبعاً لهذا فإن من الرهانات الأساسية التي تحرك الممارسة التأويلية عموماً هو نقص كل سكونية من شأنها تجميد حركة المعرفة الدائمة وما يمكن أن تؤثر به سلباً في تشكيل مفهوم الحقيقة، التي تتعدد الأفهام غالباً بشأنها، وتتنوع المسالك المفضية إليها في شتى مجالات المعرفة الإنسانية ومختلف صورها، على نقيض التصور السائد في التراث الميتافيزيقي لمفهوم الحقيقة بما هي مقولة مطلقة لكونها منتسبة إلى عالم المثل اللاَّمتحير بمكان أو زمان. وهذا الوجود المثالي الذي تُّرد إليه كامل الرؤية الميتافيزيقية هو الواقع الثابت المتماهي مع ذاته والدائم الأزلي الذي لا يعرف التغيير ولا التبديل.

       في ضوء هذا التمثل فإن ما يجعل من شيء ما حقيقيًّا هو تطابقه مع ما هو عليه في الواقع المادي وتطابق صورته تلك مع الواقع المجرد (المثال). ولا شك أن رد مفهوم الحقيقة إلى المطلق الميتافيزيقي يفضي إلى رد المتعدد إلى الواحد إقصاء لكل اختلاف وإبعاداً لكل تنوع. وغير خافٍ أن هذا الطرح المتعسف لــــ «ماهية الحقيقة» هو خير دليل على نقض إرادة المعرفة بإرادة السلطة والقوة، وعلى إنتاج وهم المعرفة بدل السعي المتواصل إليها، فالاطمئنان إلى قبول خاصية  الثبات في تعريف الحقيقة يجعلها مفرغة من الحياة وخالية من كل قوة إيجابية، لكونها حصيلة مصادرات دوغمائية ورهينة منطلقات وثوقية[4]، مسكونة بمنطق المطابقة والتأسيس الذي يخلق من المآزق والأزمات أكثر مما يفتح من الآفاق والإمكانات.

       وإذا كان ذلك كذلك فحري بنا أن ننبه إلى أن المعنى عموماً والحقيقة على جهة التخصيص «ليست بحاجة إلى إعادة تأسيس بقدر ما تحتاج إلى تغيير يطال مفهومها، كما يطال سياسة التعامل مع منتجات الفكر من المقولات والنظريات. فالأفكار ليست مرايا الحقيقة الواقعة بقدر ماهي شبكات مفهومية يتغير معها موضوع المعرفة أولاً، والأدوات المعرفية ثانياً، والذات العارفة ثالثاً، وهذا شأن الفعل المعرفي الخلاق. وعليه «فلا معنى (للفعل التأويلي) وللخطاب النقدي-في هذا الإطار- إذا لم ينتج ما يؤكد الإضافة النوعية، ويدعم الإنتاج المعرفي الخلاق»[5].       

       ومن هذا الجانب تحديداً تتبدى أهمية التأويل في العلوم الإنسانية برمتها من حيث كونه (التأويل) ممارسة نقدية تنأى بنفسها عن القواعد الصارمة والمناهج الصورية العميقة لتعانق رحابة المعنى وشساعة الدلالة. فما يميز الظاهرة الإنسانية عن الظاهرة الطبيعية هو أن الأولى ظاهرة كلية روحية معنوية فردية دالة متغيرة لا تخضع للتفسير السببي بل تخضع للفهم والتأويل، وأن الثانية ذات طبيعة جزئية مادية موضوعية متكررة خاضعة للتفسير العِلّي السببي. وهذا يعني - من ضمن ما يعنيه- أن التأويل النقدي/ الفهم الواعي بما هو تجاوز للمعنى الظاهر إلى الغوص وراء المعاني الخفية هو الآلية المنهجية التي تسعف الباحث في مجال العلوم الإنسانية من حيازة معقولية ملائمة للظواهر الإنسانية، أي للمعنى الذي يؤسسها ويحركها ضمن مجرى السيرورة التاريخية التي لا تنفك عن صور شتى من التحول والتقلب. ومن هنا فإن إدراك تمظهرات الحياة سواء تلك التي ثبتت بالكتابة على شكل نصوص لغوية أو تلك التي لم تكتب، وإنما تعاش على شكل نصوص طبيعة لا يمكن أن يتم (أي الإدراك) إلا استناداً إلى الفعل التأويلي، أما الاشتغال بالتثبيت والتأسيس فإنه خداع معرفي يحول الواقع إلى مُثُل ومجردات[6].   

      وبناء على ما سبق يمكن القول أن نظرية التدبّر القرآني رؤية معرفية قائمة على مرجعية الوحي، وجامعة بين قراءة الوحي والكون والإنسان بمنهج تكاملي يعتمد التأويل المقاصدي في بناء العلوم والمعارف، ونسقية التأويل في علاقتها بالاستمداد من الوحي تتبدى في كون التأويل آلية تدبرية وتأملية وفهمية لاستنطاق تفاعلية نص الوحي الإلهي ونص الكون على أساس أن النص القرآني عالم من المعاني المتضمنة في الملفوظ والمنظور، أو في الكلمات والأشياء، فاللغة القرآنية علامات وأمارات باعثة على كشف وجود الكون من خلال صناعة التحاور معها واستنطاقها، يقول ابن عطية: «وأشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن وتأويله»[7].

      والتأويل آلية منهجية جامعة بين ضرورة مراعاة النقل الصحيح وإعمال العقل الصريح، ومتجهة نحو النص الشرعي لتدبره، وفتح المغلق من المراد بألفاظه، وإطلاق للمحتبس عن الفهم بها. فاللغة القرآنية لغة طبيعية تتميز بخصائص إفرادية وتركيبية ودلالية وتداولية، تجعل التأويل مصاحباً لها        لا يفارقها إلا فيما أحكم الشرع معناه وجعله قطعياً في مقصده، وخاصية انفتاح القرآن الكريم على التأويل هي الإطار المرجعي لتأسيس المعرفة في الحضارة الإسلامية وتعدّد مجالاتها وتنوع مناهجها، فكانت حضارة تأويل النص الشرعي القائمة على الوعي بالمنهج قبل المضمون.

      وبهذا يتبين أن العمل بالتأويل لا يتم إلا لمن حصّل معرفةً واسعة، لا تتاح إلا لمن تمرّس بمعاني القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة، وأحاط بملابسات التشريع إلى جانب المعرفة اللغوية. هذا في البعد الإسلامي، أما في الفكر الغربي فالنشاط التأويلي ليس مسلكاً في التفكير فقط وإنما هو آلية لبناء الأنساق الفلسفية والمعرفية والثقافية، ومن هذه الزاوية يتبدى التأويل ممارسة يتوقف عليها بناء المعرفة الإنسانية؛ إذ لا تخلو منها أي ثقافة ولا ينفلت من أسرها أي تفكير، على اعتبار أن إنتاج الثقافة وبناء المعرفة وممارسة التفكير، كل ذلك ينبني على التواصل؛ سواء تواصل الذات مع غيرها، أو تواصلها مع العالم بأشيائه ووقائعه ورموزه، ولما كان التواصل يطرد على طريقة التجاوز في التدليل والاستدلال فقد لزم التأويل بوصفه أداة لإنشاء هذا التواصل، ومن ثمة لبناء المعرفة.

      ويتبوأ التأويل مكانة مميزة في قراءة النصوص ونقد المعرف بالنظر إلى أنه ليس مجرد تفسير للنص أو بناء حكم بصدده (سلباً أو إيجاباً) وإنما هو في حقيقته «إنتاج جديد» وحياة أخرى له، ولهذا فإن قيمة النص تتحدد أساساً استناداً إلى ما يخضع له من تأويل وتفكيك؛ فهو الذي يجعله مفعماً بالحياة، موسوماً بالعطاء، متصفاً بالتجدد والتطور.

      فالفعل التأويلي الحق هو ذلك الذي يوجه صوب منطقة المختلف باحثاً عن العلاقات المفارقة والمعاني الدفينة والدلالات الخفية الكامنة لأجل الانتقال بها من موقع الظل ومنطقة التواري إلى المنجز المعرفي وتدخل سياق التداول الثقافي العام، الأمر الذي يسمح بدخول أفكار جديدة وقراءات مغايرة تُغنى النسق المعرفي (الذي جرت في نطاقه الممارسة التأويلية) جاعلة إياه منفتحاً على آفاق أرحب وأوسع.

 



[1] - إشكاليات القراءة وآليات  التأويل، نصر حامد أبو زيد، ص: 6، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط 6، 2001، نقلا عن العلوم الإنسانية وسؤال التأويل من الإبستيمولوجيا إلى التأويليات النصية، العياشي ادراوي.

[2] - النص والجسد والتأويل، فريد الزاهي، ص: 94، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2003.   

[3] - التلقي والتأويل، محمد مفتاح، ص: 218، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدر البيضاء، 1994. 

[4] - ماهية الحقيقة بين الإطلاق والإمكان،إ يمان المخينيني، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 53- 54.

[5] - نقد النقد: بين التصور المنهجي والإنجاز النصي، عبد الرحمان التمارة، ص: 67، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2018.

[6] - أصنام النظرية وأطياف الحرية، علي حرب، ص: 56، المركز الثقافي العربي، 2001. 

[7] - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن عطية، 1/3.

تعليقات