لا شك أن التأويل من حيث هو ممارسة فكرية ونشاط ذهني قصدي موجه نحو موضوع
ما، يقع في قلب المعرفة الإنسانية، علمية كانت أو عامية، لأنه يرتبط بعمليات
الإدراك والفهم، والقراءة والتفسير وغيرها مما يدخل في نطاق التعالق القائم بين
الذات العارفة وموضوع المعرفة، من جانب، ومسألة الحقيقة من جانب آخر، مثلما يقترن
باللغة وإنتاج المعرفة والدلالة، أي بعملية التفاعل والتواصل بين الناس في
المجتمعات الإنسانية، الأمر الذي يجعله نتاجاً للثقافة وآلية لإنتاجها في الآن
نفسه. ومعنى هذا أن النشاط التأويلي ليس مسلكاً في التفكير فقط وإنما هو آلية
لبناء الأنساق الفلسفية والمعرفية والثقافية. ومن هذه الزاوية يتبدى التأويل
ممارسة يتوقف عليها بناء المعرفة الإنسانية؛ إذ لا تخلو منها أي ثقافة ولا ينفلت
من أسرها أي تفكير، على اعتبار أن إنتاج الثقافة وبناء المعرفة وممارسة التفكير،
كل ذلك ينبني على التواصل؛ سواء تواصل الذات مع غيرها، أو تواصلها مع العالم
بأشيائه ووقائعه ورموزه.
ولما كان
التواصل يطرد على طريقة التجاوز في التدليل والاستدلال فقد لزم التأويل بوصفه أداة
لإنشاء هذا التواصل، ومن ثمة لبناء المعرفة. ولعل ما يقوم دليلاً على ذلك أن التأويل
لا يقتصر على علم بعينه، ولا يختص بضرب معين من ضروب المعرفة الإنسانية. فعديدة هي
العلوم التي وظفته في تشييد صروحها النظرية وإن لم تعترف بحقه الشرعي في أن يأخذ
موقفاً طبيعياً له ضمن أبنيتها النظرية أو جهازها المفاهيمي. ومثلما لا يقتصر
الفعل التأويلي على نمط معرفي محدد لا ينحصر كذلك داخل نطاق زمني مخصوص، بمعنى أن
التأويل ليس ظاهرة مستحدثة في تاريخ المعرفة الإنسانية وإنما هو راسخ على مر مراحل
تجربة التفكير الإنساني في تجلياته ومنعطفاته؛ كما في لحظات استقراره وسكونه[1].
على هذا الأساس يكون التأويل ضرورة إنسانية
تقتضيها طبيعة اللغة والفكر، وتوجبها مستلزمات التفاعل والتواصل، سواء مع النصوص
والعلامات أو مع الأشخاص وباقي الموجودات.
ويتبوأ التأويل مكانة مميزة في قراءة النصوص ونقد المعرف بالنظر إلى أنه
ليس مجرد تفسير للنص أو بناء حكم بصدده (سلباً أو إيجاباً). وإنما هو في حقيقته
«إنتاج جديد» وحياة أخرى له. ولهذا فإن قيمة النص تتحدد أساساً استناداً إلى ما
يخضع له من تأويل وتفكيك؛ فهو الذي يجعله مفعماً بالحياة، موسوماً بالعطاء، متصفاً
بالتجدد والتطور. وتبعاً لهذا يغدوا النقد ممارسة عقلانية ونمطاً فكرياً تفكيكيًّا
استنطاقيًّا. وبما هو مساءلة وتحليل للنصوص ومراجعة للأفكار والوقائع والأفعال
التي تنطلق من معايير معينة. ووفق شروط محددة، فإنه يتيح- من ضمن ما يتيحه- خلق
سياقات معرفية جديدة، ومناخات ثقافية متباينة، ومساحات فكرية مغايرة، ومن ثمة
الإسهام في الانفتاح على آفاق جديدة للنظر، واختلاق مهمات عديدة للعمل.
وعلى هذا
الأساس فإن مما يتعين التأكيد عليه في هذا المقام أن ثمة توازياً وتعالقاً من نوع ما بين تحولات مفهوم النص (نظرية النص) من
جهة، وتحولات نظرية التأويل من جهة ثانية، بحيث إن طبيعة التصور الذي يُشيَّد
بخصوص النص هو الذي يفرض الممارسة التأويلية المناسبة له، بالنظر إلى أنه يصعب -
بل يستحيل- تصور وجود نصوص وتأويلات بمعزل عن براديغمات/ أنظمة معرفية- ظاهرة أو
مضمرة- مؤطِّرة وموجِّهة لها في الآن نفسه. ومن هنا فإن ما يظهر مثلاً من تدافع
وصراع واختلاف بين التأويلات ليس إلا صراعاً بين الأنظمة المعرفية الثاوية خلف
ذلك، واختلافاً في طبيعة المنطق الموجه لكل تأويل على حدة.
ارتباطاً
بهذا يمكن القول إن التوجهات التي كانت حبيسة «المنطق الإبستمولوجي» التقليدي/
التأسيسي في تمثلها للنصوص لم تستطع الخروج من دائرة منطق المماثلة والمطابقة، كما
لم تستطع تجاوز تأويل المماثلة الذي يبقى في حدوده القصوى أسير سلطة النص مقيداً
بما يحمله وما يقرره، على عكس التوجهات التأويلية التي تمردت على «النزعة
الإبستمولوجية» وحاولت استبدالها بالطموح التأويلي الذي لا يرى في النص إلا
منطلقاً للفهم وأفقاً للاختلاف وإمكاناً للتجاوز[2].
ضمن هذا
الإطار سنحاول التوقف عند ثلاثة براديغمات/ أنظمة معرفية أساسية مع إبراز طبيعة
النمط التأويلي (الممارسة التأويلية) الموصول بكل نظام من جانب، وطبيعة التصور المشكل
بخصوص النص من جانب آخر لاستثمار كل ذلك في الاستدلال على أن النمط التأويلي
الأكثر فاعلية في تطوير النص وإثرائه بشكل عام، والأكثر أهمية في تحرير النصوص مما
يلحقها من قيود وأثقال بشكل خاص هو النمط الذي يتأسس على مبدأ الاختلاف والتجاوز،
ويوجه بمنطق التعدد والتنوع، لأنه تَوَجُّه غير معهود في القراءة والفهم تتغير معه
النظرة إلى النص وتنقلب طريقة التعاطي معه بحيث لا يبقى مجردَ ناقلٍ للحقيقة فقط وإنما يغدوا
مُنْتِجاً لها كذلك[3].
§
براديغم المطابقة/ تأويل المطابقة
لاشك أن الحديث عن براديغم المطابقة والمماثلة بما هو تصور مخصوص للعالم
والأشياء - كما تجلى في الفلسفة الغربية تحديداً- يفرض العودة إلى اللحظة
السقراطية وما ارتبط بها من نزوعات مثالية عند أفلاطون ومن دار في فلكه، بالنظر
إلى ما لها من تأثير قوي في إنتاج منظومة معرفية حكمت العقل التأويلي ووجهت تصوراته
بخصوص سؤال الفهم ومسألة التفاعل مع النص لذا ظهر منحى تأويلي يقوم على نظرية
المعرفة المثالية، ويمثل خياراتها ويبني أحكامه على مقولاتها، يقوم على فكرة
مماثلة مركزية. وهو ما يمكن أن يسمى "بتأويل المماثلة والمطابقة" الذي
يسعى في ممارسته إلى مطابقة قصد المؤلف في نصه ويتخذه مركزاً يتجه إليه جهد المؤول
ولا يحيد عنه، من منطلق أن وراء إنتاج النص قصداً محدداً للمنشئ يريد إبلاغه إلى
المتلقي، لذا فعلى المؤول - وفق هذا التصور- أن يبحث عن ذلك القصد المودع في النص،
ويحرص أشد ما يكون الحرص على الإتيان بتأويل (فهم) مماثل لما يتغياه صاحب النص،
مطابقاً له. واستناداً إلى هذا يبلغ المؤول الحقيقة المودعة في النص التي هي حقيقة
موضوعية متعالية لا دخل للذات المؤولة فيها، لا إيجاداً ولا تعديلاً ولا إضافة[4].
وعلى اعتبار أن النصوص التي انشغلت
(وتنشغل) بها الممارسة التأويلية تتنوع بين النصوص المقدسة الدينية والنصوص
البشرية غير المقدسة فإن مرجعية النص تظل محصورة إما في النص مع مبدعه أو في النص
من دون منشئه، وعليه إذا كان النص مقدساً لا يمكن الوصول إلى قائله ولا إلى الظروف
التي خلقت التجربة فإن النص يكون - في هذه الحالة - شاهد ذاته، ويكون نظامه
الداخلي دالاًّ على ما يحمله من قصد، وهو المسلك الذي تسلكه التأويلات الفيلولوجية
وخاصة الحرْفية منها.
أما في حال وجود نص بشري
فإن المؤول لا يتردد في الإفادة من كل ما ينتمي إلى تجربة النص من ظروف زمانية
ومكانية وإمكانات معرفية لذات منشئة. لكن ضمن كل هذا يبقى الهدف الأساس للمؤول هو
الخروج بتأويل مماثل لقصد منشئ النص[5]
على نحو يقضي بأسبقية النص على التأويل.
فما دام النص أو الخطاب المنجز قد تألف
وجوداً «ماهويًّا قبليًّا». في عقل منشئه قبل أن يتمثل موجوداً مكتوباً أو منطوقاً
في رموز أو أصوات لغوية فإن «ماهيته المدركة» في هذا التصور تسبق الوجود المشخص،
وعند تحقق النص مكتوباً يكون مهيَّأً للقراءة، صالحاً للتأويل. فالوجود الماهوي
القبلي -كما يرى شلاير ماخر- سابق على الوجود المشخص[6].
وهذا يعني – من ضمن ما يعنيه- أن الدخول
إلى نطاق فهم النص يستلزم من المؤول الوقوف على ذلك الوجود القبلي الماهوي للنص
المراد تأويله وذلك وفق مسار يتحرك في اتجاه معاكس، على اعتبار أن النص حل في
وجوده «بالفعل» وعلى المؤول الرجوع إلى الوجود «بالقوة» (الوجود القبلي)، حتى
يتحقق الفهم المراد. وعليه فإن «فهم المؤول يكون في إثبات أصدق مماثلة لقصد المؤلف
والاتجاه في خط سير نسقي صاعد من النص الموجود المشخص مكتوباً إلى «فكرة الأصل»
للمنشئ (قصد المؤلف أو مراده). فثمة وجود قبلي متعالٍ يجب إدراكه بالعقل التأويلي،
والنص يتوسط بين وجودين، القصد المتعالي لا يمكن إلا بالفهم المتعالي. ومن هذا
الجانب يبدوا أن عمل المؤول يكون أشبه بعمل المرآة التي يتعكس عليها فكر المنشئ
ومعناه الذي يحمله النص، ومماثلته كما تعمل المرآة»[7].
الأمر الذي تغيب معه حرية
القارئ المؤول ويُلغى أثره فلا يصير التأويل حينها إلا بحثاً في مركزية المنشئ
الذي يبقى قصده شاهداً على المعنى أو الحقيقة التي يحملها النص.
وفيما يبدوا أن ما تم بيانه من خصائص
وتجليات براديغم المطابقة والمماثلة على مستوى الممارسة التأويلية وتمثل النصوص
يعود إجمالاً إلى ثلاثة روافد أساسية أسهمت بشكل كبير في ترسيخ المركزيات عامة،
وفي بناء هذا النظام المعرفي خاصة، وهي: أولاً: «نظرية المثل الأفلاطونية»،
بما هي تصور يربط وجود المعرفة والأشياء بمركزية المثال فيعطيه الأصالة، وكل ما
دونه يبقى صورة له وفرعاً تابعاً له ورهن مماثلته. ثانياً: «الكوجيتو
الديكارتي» الذي أعطى صفة التعالي للذات التي تطارد المعرفة وتثبتها (بناء نظرية
المعرفة على الذات المفكرة)، وهي مرحلة الانتقال في رصد المعرفة من مركزية المثال
إلى مركزية الوسيط. ثالثاً: «المشروع الكانطي» بدءًا من حدوث المعرفة
البديهية والتجريبية وصولاً إلى المركز الأعلى (العقل)، أي بناء نظام لخط سير
المعرفة داخل الذات المفكرة على نحو نسقي[8].
وليس من نافل القول الإشارة في هذا السياق إلى أن
المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام المماثلة/ المطابقة هي التي تحكمت - بشكل
مباشر أو غير مباشر- في البنيوية بخصوص رؤيتها للنص وطريقتها في استيعابه ضمن
برامج تحليلية تلغي من حسابها كل ما لا يحضر داخله بشكل مباشر. فالمعنى في التصور
البنيوي محايث للنص، وأنه حاصل علاقات تتحقق داخل نسق وحاصل الاستبدالات الممكنة
لهذه العلاقات. واستناداً إلى مبدأ المحاثية هذا (اكتفاء النص بذاته) أدرجت اللغة
ضمن ميكانيزمات القراءة والتحليل البنيويين باعتبارها العنصر المركزي الذي تقوم
عليه كل العمليات الفنية التوليدية منها والتأويلية.
ومن هذه الناحية سعت البنيوية في كل مجالات
اشتغالها إلى إعادة صياغة كل المعارف الإنسانية استناداً إلى ما يمكن أن يقدمه
النموذج اللساني، فاللسان هو الذاكرة الوحيدة القادرة على مفصلة كل شيء في الوجود
من حيث التتابع ومن حيث الروابط بين الظواهر. إنه يمفصل الزمان والمكان والعلاقات
من خلال تقطيع يقدم صيغة جديدة هي ما يتم تداوله، وهو أمر يشكل أساس كل تبادل
إبلاغي أو دلالي. لذلك فهو شكل وليس مادة. إنه لا يستنسخ عالماً بل يعيد صياغة ما
يقوم بتمثيله ضمن أوعية المجرد. واستناداً إلى ذلك فإن العلامة هي كذلك في
علاقاتها بعلامة أخرى، لا في إحالتها على ما يؤكد وجودها ويثبته خارج اللسان،
والحاصل أن المعنى هو نتاج ما تفرزه التأليفات الممكنة بين العناصر المشكلة للنسق،
إنه ليس سابقاً على النسق وليس لاحقاً له[9].
وهكذا فإن الحديث عن البنيوية من هذه الجهة
يدور في الغالب على اللغة ومفهوم البنيويين عن وظيفتها داخل النص الذي يُتصور
كعالم ذري مغلق على نفسه، وموجود بذاته. يقول «بيرلمان» في هذا السياق: «إن القضية
الأساس عند البنيوية هي أن كل لغة، كل النصوص، بناء مأخوذ من معجم ليس لمفرداته
معانٍ خارج البناء الذي يضمها»[10].
مما يدل على أن الرهان الأساس في هذا الاتجاه إنما هو التقيد بالنص تقيداً كاملاً، والتطابق معه تطابقاً مطلقاً لأنه
مكتفٍ بذاته، دال بنفسه.
§ براديغم المشاركة والمجاورة/ تأويل المشاركة
إذا كانت المنظومة المثالية/ المركزية قد
أسست تأويل المطابقة والتماثل الذي يقضي بوجود أصل مركزي متعالٍ هو مدار الممارسة
التأويلية وأساس اشتغال المؤول الذي يسعى جاهداً للتماهي معه (الأصل) بموضوعية مع
استبعاد شبه كلي لحرية القارئ وفاعليته بما يجعل التأويل مجرد بحث في مركزية
المنشئ، إذا كان ذلك كذلك فإنه مع براديغم المشاركة يبْرُز تصورٌ مغاير للفعل
التأويلي على اعتبار أن ما يصبو إليه المؤول وفق هذا المنظور مبني على قاعدة أن
القصد الذي يحمله النص، أو الحقيقة التي يُراد الوصول إليها والكشف عنها لا يتأتى إلا
من خلال علاقة جدلية تفاعلية بين عقل قارئ وبنية النص، وهو لاشك منطق يضعف مركزية
قصد المؤلف مثلما ينسف كلية «مبدأ المحايثة» الذي ينبني عليه نظام المماثلة وبعده
تأويل المطابقة، إلا أنه ليس إلغاءً تاماً كاملاً لأنه يُقر به مع التشديد على أن
التأويل لا يتحقق إلا بالاشتراك والتفاعل بين الذوات.
فالمعنى والحقيقة اللذان
يحملهما النص هما نتيجة ذلك الاشتراك بين «فعل» و «بنية» أو «ذات» و «موضوع»، وهما لا يرتهنان لا لذات مؤلف
متعالٍ ولا لقارئ مغامر منطقه الإلغاء وهاجسه التجاوز (تجاوز النص). فما أن ينفصل
النص عن مؤلفه ويصل إلى المتلقي حتى يتحول، بما يحمل من قصد أو معنى أو حقيقة، إلى
مجال مشترك قابل لإعادة صياغة تجربته على نحو تشاركي؛ «فإذا كانت التجربة التي كتب
المنشئ نصه من أجلها خاصة فإن النص بانفصاله عن مؤلفه يتحول إلى تجربة توجدها
علاقته بالآخر، بما يعني أن التأويل لا يتحول إلى بحث محض في مثيل القصد، وإنما
إلى بحث في النشاط الذي يحقق ذلك القصد بالاشتراك الصانع لتجربة النص»[11]،
وفق صيغة قوامها التفاعل والحوار.
وما تجدر الإشارة إليه في هذا الإطار أن
ما يسمى بالتأويل الحواري (أو الحوار التأويلي) في الهرمينوطيقا[12]
المعاصرة هو تأويل يهدف - من ضمن ما يهدف إليه- إلى تجاوز ثنائية «الذات/ الموضوع»
التي يتم فيها تأكيد أحد طرفيها على حساب الطرف الآخر. وهذا الصنف من التأويل كما
فهمه جادامر (Gadamer) مثلاً يتميز «بالإنتاجية
المخلصة» للنص الأصلي المراد تأويله. فالانصياع للنص والثقة فيه هما المفهومان
الموجهان للهرمينوطيقا الجادامرية عامة، إلا أنه على الرغم من ذلك لا ينبغي أن
يُفهم الانصياع (أو الثقة) في النص على أنه يعني أن المؤول يكون سلبيًّا تمامًا في
علاقته بالنص ما دام أن التأويل يكون إنتاجيًّا وليس معيداً لإنتاج النص وإن كان -
في الآن نفسه- لا يوصف بكونه إبداعيًّا.
فجادامر يتجنب استعمال وصف «إبداعي» لأنه يبالغ في إضفاء سلطة المؤول (أي
نص التأويل) على النص الأصلي[13].
إن هذا التصور يقودنا إذن إلى الإقرار بأن
الممارسة التأويلية (أو الفهم) التي تنطلق من هذا الخيار "خيار المشاركة
والتفاعل" إنما تحقق الفهم من حيث هو وجود بتلك العلاقة بين الذات التي
يمثلها القارئ/ المؤول والموضوع الذي تمثله بنية النص. وبالحركة التفاعلية يتحقق
التأويل بوصفه وجوداً من جهة، وبوصفه خاصية إنسانية تدل على تفرده في هذا الباب من
جهة ثانية.
§
براديغم الاختلاف/ التأويل الاختلافي
لعل ما يميز منظومة الاختلاف - بما هي
اختيار معرفي جديد يقطع مع اليقين المطلق والنزوعات الموضوعية والمثالية على نحو
يجعل المعرفة والذات والحقيقة تُفصل فصلاً عن مركزياتها المتعالية لينفتح بذلك
المجال أمام المهمش واللامفكر فيه – كونها أَرْسَت توجهًا في التفكير والبحث،
والنظر والممارسة يحتفي بالمختلف ليس لإثبات الآخر أو ما يتغياه فقط وإنما لإثبات
الذات أساساً من خلال الكشف عن المختلف المغيب قصداً أو عادةً.
وعليه لم يعد منطق البحث التأويلي قائماً
على المماثلة المركزية (المنظومة الأولى)، ولا على الإقرار بأنه تفاعل واشتراك بين
الذوات، أي من حيث هو صناعة جدلية بين ذات وموضوع (المنظومة الثانية)، وإنما أضحى
منطقَ تجاوزٍ واختلافٍ يتوخى الكشف عن المتغير والمختلف، والنسبي المتحول. لذا
فبدلاً من بناء المعرفة الموجودة بالاشتراك صار يؤسس لتفكيكها ونسفها، وبدلاً من
التعاطي معها بعقلية يقينية قطعية أضحى الموجه الأساس الظن والنسبية والاحتمال[14].
فالنص وفق هذا المنظور لا يحمل في ذاته
دلالة جاهزة ونهائية، تامة ناجزة وإنما هو فضاء دلالي وإمكان تأويلي.
ولهذا
فهو لا ينفصل عن قارئه ولا يمكن أن يتحقق من دون مساهمة هذا القارئ. فكل قراءة
تحقق إمكانًا دلاليًّا لم يتحقق من قبل. كل قراءة هي اكتشاف جديد لأنها تكتشف
بعداً مجهولاً من أبعاد النص، ومن هنا انفتاح النص على الاختلاف والتعدد، وابتعاده
عن المطابقة والتماثل، فلا تطابق ممكناً في الأصل بين القارئ والنص، ولا وجود
لقراءة مجردة منزهة. وبهذا الاعتبار تبقى القراءة ليست مجرد صدى للنص وإنما هي
احتمال من بين احتمالاته الكثيرة والمختلفة.
إن القراءة الحقة من هذه الجهة «هي ممارسة
فكرية لغوية منتجة للاختلاف مولدة للتباين، إنها تتباين بذاتها عما تريد بيانه،
وتختلف بذاتها عما تريد قراءته، وشرطها، بل علة وجودها أن تكون كذلك؛ أي مختلفة
عما تقرأ فيه، ولكن فاعلة في الوقت نفسه، ومنتجة باختلافها، ولاختلافها بالذات»[15].
تأسيساً
على ما سبق يبدوا أن صورة أنموذج «النص التقليدي» (التي يدعي بموجبها المؤولون من
أصحاب نظام المماثلة أنهم قد ملكوا معناه بمعرفة بؤرته والوصول إلى أصله) قد حطمت
بشكل كلي. فصورة النص اختلفت واختلف تبعاً لذلك مفهومه كما سبق البيان. فالنص ضمن
هذا النطاق يكف عن أن يتخذ شكلاً ثابتاً مستقرًّا وحيداً ومنتهياً، إنه على حد
عبارة حمادي صمود: «بنية متغيرة تنطلق من نواة لترحل في لذة اللغة وتجرب شبق
الابتداع والاغتراب»[16].
وغني عن البيان في هذا المقام أن فعل
«الترحال» المقصود في هذا المقام لا يتحقق إلا استناداً إلى مبدأ «تعدد القراءة»
من حيث كونه مبدأ تتأسس عليه العملية التأويلية برمتها. على اعتبار أن التأويل في
حقيقته هو نقيض التحجر والدوغمائية، وتبعاً لذلك فهو مظهر من مظاهر التحرر من
الموقف الواحد والرأي الواحد، وسراب الحقيقة المطلقة، «إن التأويل باعتبار سلطة
عَالِمة يحرر النص، مثلما يحرر الإبداع والنقد من أوهام الحقائق المطلقة. إنه يقطع
مع الدوغمائية ليؤكد أن الوعي فعل إبداعي، وهكذا فإن سلطة التأويل هي التي تشكل
الظاهرة الإبداعية عندما تعتبر أن نتائج التأويل ليست إلا وجهاً من وجوه الحقيقة»[17].
من هنا نجد مثلاً أمبرتو إيكو يرفض رفضاً
باتاً جاهزية النص اللغوية وتقوقع وحداته على ذاتها مما يعيق طريق الانفتاح في
توسيع دائرة التأويل؛ «ذلك أن كل أثر للفن حتى ولو كان له شكل منتهٍ ومغلق، ضمن
مجموعه المتقن والمضبوط بدقة، يعد مفتوحاً على الأقل عند تأويله بطرق متنوعة»[18].
ففي حيز اعتقاد إيكُو أن إمكان تعدد التأويلات
في عمل فني أو نص «معاصر» يمثل اختلافاً عميقاً في رؤى العالم نتيجة تبدل النظم
وتغير نظرتنا ومفهومنا للمعرفة[19].
وإذا كان التأويل يتحرك في اتجاه تحقيق
الفهم، والفهم هو إثبات معرفة بشيء ما فإن تغير نظرية المعرفة يقتضي حتماً تغير
نظرية والتأويل. وهذا ما يعكسه مفهوم «الأثر المفتوح» الذي اقترحه إيكو مميزاً بين
النص المفتوح والنص المغلق، يقول: «إذا كانت كل قراءة تفترض أن العالم الشخصي ينحو
باتجاه التطابق بشكل تام مع عالم النص فإن النص المبني على سلطة الإيحاء مثلاً
يتجه مباشرة صوب العالم الداخلي للقارئ؛ وذلك بهدف إبراز أجوبة جديدة وغير منتظرة،
بعيداً عن مقصديتها الميتافيزيقية وعن أصلها الثمين أو عن انحطاط تصوراتها. فقد
تضمنت الرمزية انفتاح الإدراك الجمالي. والإنتاج النصي في جزء كبير منه ينبني على
استخدام الرمز بوصفه تعبيراً عن غير المحدد، مفتوحاً على التفاعلات والتأويلات
الجديدة باستمرار»[20].
فلا وجود إذن بمقتضى تصور إيكو لأصل مركزي
متعالٍ يُبنى عليه التأويل تطابقاً أو مشاركة، ثمة فقط تشكل من الإحالات المفتوحة
على تأويلات متجددة متغيرة باستمرار. إنه قانون الصيرورة الذي يبيح مجاوزة الأصول
المتعالية والتصورات الميتافيزيقية ليوقع النص في وضع لا تجد فيه الذات المؤولة من
خيار أمامها إلا إزاحة الأصل وتقويض المركز، فلا يبقى التأويل عندئذ رهن منطق مغلق
أو نموذج ثابت أو فهم وحيد متفرد[21].
ومن هنا تبدو المجاوزة والاختلاف شرطين أساسين للتأويل، ومن ثمة تتهاوى سلطة النص
أمام سلطة الذات المؤولة بما لم يحدث في المنظومتين السالفتين.
ولعله باستحضار التصور التفكيكي للنص
أولاً - في هذا النطاق- وللفعل التأويلي ثانياً، يتبين أن النص يأخذ بعداً آخر
أكثر «تطرفاً» بحيث يُوجِد ذلك الإمكان المنشود في الهدم والنقض، الإمكان الذي
يفصل النص عن صاحبه ويسلمه إلى لعبة الدوال بالتناقضات والتوترات الكامنة فيه،
وعندها لا يستحيل المعنى مرجعاً متعالياً
ما دام التفكيك ينشغل أساساً بنفس البنية الداخلية وخلخلتها، مما يعني أن
الغاية المثلى التي توجه هذا النمط من المقاربات هي خلق المغايرة والاختلاف وتحقيق
الإضافة والتجديد.
[1] - العلوم الإنسانية وسؤال التأويل
من الإبستيمولوجيا إلى التأويليات النصية، العياشي ادراوي، ص: 127- 128، دورية
نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، العدد 11، خريف 2020م.
[2] - العلوم الإنسانية وسؤال التأويل من الإبستيمولوجيا إلى
التأويليات النصية، ص: 129.
[3] - العلوم الإنسانية وسؤال التأويل من الإبستيمولوجيا إلى
التأويليات النصية، ص: 129-130.
[4] - العقل التأويلي الغربي: مقاربات
في أنظمته المعرفية ومساراته، أحمد عويز، ص: 37- 38، دار الكتب الجديد المتحدة،
لبنان، الطبعة الأولى 2017، نقلا عن العلوم الإنسانية وسؤال التأويل من
الإبستيمولوجيا إلى التأويليات النصية، العياشي ادراوي.
[5] - العقل التأويلي الغربي: مقاربات
في أنظمته المعرفية ومساراته، ص: 38.
[6] - الفسارة الفلسفية، مشير باسيل
عون، ص: 87، بحث في تاريخ علم التفسير الغربي، دار الشروق، بيروت، الطبعة الأولى
2004.
[7] - العقل التأويلي الغربي: مقاربات
في أنظمته المعرفية ومساراته، ص: 99.
[8] - العقل التأويلي الغربي: مقاربات
في أنظمته المعرفية ومساراته، ص: 11- 40.
[9] - سيرورات التأويل: من الهرموسية
إلى السيمسائيات، سعيد بنكراد، ص: 263- 265، دار العربية للعلوم ناشرون- لبنان
ومنشورات الاختلاف- الجزائر، الطبعة
الأولى 2012.
[10] - المرايا المحدبة: من البتيوية
إلى التفكيكية، عبد العزيز حمودة، ص: 160، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع: 232، 1998.
.
[11] - العقل التأويلي الغربي: مقاربات
في أنظمته المعرفية ومساراته، ص: 131- 132، نقلا عن العلوم الإنسانية وسؤال
التأويل من الإبستيمولوجيا إلى التأويليات النصية، العياشي ادراوي.
[12] - الهرمينوطيقا : يشتق لفظ
الهرمنيوطيقا (Hermeneutics) من الفعل الإغريقي (Hermeneuein) وهو فعل يدل على عملية كشف
الغموض الذي يكتنف شيئا ما، أو إعلان رسالة وكشف النقاب عنها.
[13] - في ماهية اللغة وفلسفة التأويل،
سعيد توفيق، ص: 153، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان،
الطبعة الأولى.
[14] - العقل التأويلي الغربي: مقاربات
في أنظمته المعرفية ومساراته، ص: 279- 280، نقلا عن العلوم الإنسانية وسؤال
التأويل من الإبستيمولوجيا إلى التأويليات النصية، العياشي ادراوي.
[15] - نقد الحقيقة، علي حرب، ص: 5- 9، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط 3، 2005.
[16] - حمادي صمود، "قراءة نص شعري
من أغاني مهيار الدمشقي لأدونيس"، ص: 352- 353، ضمن كتاب "صناعة المعنى
وتأويل النص"، أعمال الندوة التي نظمها قسم اللغة العربية بجامعة تونس، كلية
الآداب، من 24 إلى 27 من أبريل 1991، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية
بمنوبة، تونس، 1992.
[17] - "من النص إلى سلطة
التأويل" ضمن كتاب: صناعة المعنى وتأويل النص، الحبيب شيبل، ص: 454.
[18] - في نقد التأويل المضاعف، سعيد
حنصالي، أمبرتو إيكو، ص: 92، منشورات ضفاف- لبنان، ومنشورات الاختلاف- الجزائر،
الطبعة الأولى، 2015.
[19] -
دليل الناقد الأدبي المركز الثقافي العربي، ميجان الرويلي وسعد البازعي، ص:
272- 273، بيروت/ الدار البيضاء، ط 3، 2002.
[20] - نفسه، ص: 22- 23.
[21] - العقل التأويلي الغربي: مقاربات
في أنظمته المعرفية ومساراته، ص: 340.