سأخصص هذا المقال إن شاء الله تعالى لبعض التطبيقات المعاصرة التي تثبت
إعاقة وحدة الأمة.
vشعيرة
الجهاد وأثرها في بناء وحدة الأمة.
قبل أن أتحدث عن الجهاد، فإن
باب الجهاد في سبيل الله وأحكامه باب واسع يحتاج إلى عناية فائقة. ولفظ الجهاد
لغة مأخوذ من "الْجَهْد أو الْجُهْد ، وهو بذل الوسع والعمل ببذل
الطاقة، أو المشقة"[1]،
وهو بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل. قال الراغب رحمه الله في
مفرداته " الجَهد والجهد: الطاقة والمشقة، وقيل الجهد بالفتح المشقة، والجُهد
الوسع" وقال ابن جحر في الفتح: "والجهاد بكسر الجيم، أصله لغة
المشقة"[2].
أما لفظ الجهاد من الناحية الاصطلاحية فيدور عند جل الفقهاء على قتال
الكفار، يقول الكاساني رحمه الله تعالى: "هو بذل الوسع والطاقة بالقتال في
سبيل الله عز وجل، بالنفس، والمال واللسان، أو غير ذلك، أو المبالغة في ذلك، ويقول
ابن حجر رحمه الله تعالى: "بذل الجهد في: قتال الكفار"[3].
وكل ذلك مقيد بالضوابط الشرعية قبل بدء القتال، يقول ابن الهمام رحمه الله تعالى:
(هو دعوتهم إلى دين الحق وقتالهم إن لم يقبلوا)"[4].
ومن أحسن العبارات الواردة في معنى الجهاد قول شيخ الاسلام ابن تيمية:
"الجهاد: هو بذل الوسع – وهو القدرة – في حصول محبوب الحق ودفع ما
يكرهه"[5].
وقوله أيضا: " وذلك لأن الجهاد حقيقته: الإجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يغضبه الله من الكفر والفسوق والعصيان"[6].
ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن الجهاد في المفهوم الشرعي: إسم جامع لسلوك كل سبب
ووسيلة لتحقيق مايحبه الله تعالى ويرضاه من الأفعال والأقوال والإعتقادات ولدفع ما
يكرهه الله سبحانه ويبغضه من الأفعال و الأقوال والإعتقادات. وتتجلى مشروعية
الجهاد في سبيل الله في كونه فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم
عن الباقين قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَةً، فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَاِئفَةٌ لِيَتَفَقَهُوا
فِي الدِينِ وَليٌنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَهُمْ يَحْذَرُونَ122
}[7]. ويكون فرض عين في ثلاث حالات:
1-إذا حضر المسلم المكلف القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال الله
تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اَمَنُوا الَّذينَ
إِذَالَقِيتُمُ الذِينَ كَفرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ 15 وَمَنْ
يُوَلٍّهِم يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ، إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا
إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
المَصِيرُ}[8].
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات.
2-إذا حضر العدو بلدا من بلدان المسلمين تعين على أهل تلك البلاد قتاله
وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو
ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب، قال تعالى:{ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ اَمَنُوا قَاتَلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمُ مِنَ الكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غَلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الَلهَ مَعَ المُتَّقِينَ123}[9].
3-إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك، قال الله تعالى:{
انْفِرُوا خِفَافُا وَثِقَالاَ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمُ وَأَنْفُسِكُمْ فِي
سَبِيلِ اللَهِ ذَلِكُمُ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 41 }[10].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا"[11].
وللجهاد شروط وجوب لا يجب
إلا بها و من بينها التكليف، فلا يجب على صبي ولا مجنون لما روي عن علي رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (رفع القلم عن
ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المعتوه حتى يعقل)[12]،
وروي عن عروة بن الزبير أنه قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر نفرا من
أصحابه إستصغرهم منهم عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، والبراء بن عازب، وزيد بن
ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، ورجل من بنى حارثة، فجعلهم حرسا للذراري
والنساء.
السلامة: من الضرر لقوله تعالى{غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ}[13]،
وهو العمى والعرج والمرض والضعف لقول لله تعالى " لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى
حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَج وَلاَ عَلَى المَرِيضِ حَرَج "[14].
وقوله تعالى{لَيْسَ عَلَى الضًّعَفَاءِ وَلاَعَلَى المَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ
لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}[15]
ومن في بصره سوء أو شيء يمنعه من رؤية عدوه وما يتيقه من السلاح لم يلزمه الجهاد
لأنه في معنى العمى في عدم إمكان القتال. ويجب على الأعور، وعلى الأعشى الذي يبصر
في النهار دون الليل أن يقاتل في النهار، لأنهما
يتمكنان من القتال، ولا يجب على أقطع اليد أو الرجل لأنه إذا سقط الجهاد عن
الأعرج فالقطع أولى لأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي واليدين ليتقى بأحدهما يضرب
بالأخرى. ومثل القطع الأشل ونحوه.
الحرية: فلا يجب على العبد لقوله تعالى (لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى المَرْضَى وَلَا عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا
يَتَّفِقُونَ حَرَجٌ)[16].
والعبد لا يجد ما ينفق لأنه وما له لسيده ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم كأن
يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع البعد على الإسلام فقط.
الذكورية: فلا يجب على المرأة لأن عائشة رضي الله عنها
قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ( نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال (لكن
أفضل الجهاد حج مبرور)، وعند أحمد وبن ماجه أنها قالت: يا رسول الله، على النساء،
جهاد؟ قال (نعم عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) ولأن المرأة ضعيفة لا تقدر
على القتال.
الإستطاعة: والمستطيع هو الصحيح الواجد بملك أو يبذل إمام
ما يكفيه من الزاد والسلاح ويكفى أهله في غيبته لقوله تعالى (لَيْسَ عَلَى
الضُعَفَاءِ وَلاَ عَلَى المَرْضَى وَلَا عَلَى الذِّينَ لاَ يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ)[17]،
ويكون فاضلا عن قضاء دينه وأجرة مسكنه وحوائجه، وأن يجد مع بعد محل جهاد مسافة قصر
فأكثر من بلده ما يحمله لقوله تعالى (وَلاَ عَلَى الذِّينَ إِذا مَا أَتَوْكَ
لِتَحْملَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدَ مَا أَحْمِلَكمُ عَليْهِ)[18]،
ولا تعتبر الراحلة مع قرب المسافة والجهاد منه يكون بالقلب أو باللسان والبيان والحجة
والمناظرة أو بالكتابة والزود أو الرأي والتدبير أو السلاح أو المال فيجب على كل
بقدر ما يمكنه."[19]
حكم ما يسمى بالعمليات
الإستشهادية: إختلف العلماء فيها على قولين:
1-الجواز "إذا كان فيها نكاية للعدو وانتصارا للإسلام وهو
قول الشيخ حمود العقلا والشيخ سلمان
العودة والشيخ سليمان العلوان وظاهر علام
الشيخ محمد العثيمين والشيخ ناصر الدين الألباني واشترط الأخير كونها بأمر
الإمام والأخيرين على أن العمليات
الموجودة في زمانهما في فلسطين وغيرها أنها ليست جائزة إذ ليس فيها نكاية
"للعدو بل فيها تحريش وتحريض له على القتل واقتحام المدن بآلاته الحربية التي
لايستطيعون مواجهتها وما يحصل من جراء ذلك من قتل وهدم للمنازل والبيوت والمساجد
وغيرها وربما هتك الأعراض وأسر وجسر وتعذيب فليس فيها نكاية بالعدو مطلقا فلذا لا
يجيزونها. وقال الشيخ حمود العقلا: العمليات الإستشهادية عمل مشروع وهو من الجهاد
في سبيل الله إذا خلصت نية صاحبه وهو من أنجح الوسائل الجهادية ومن الوسائل
الفعالة ضد أعداء هذا الدين لما لها من النكاية وإيقاع الإصابات بهم من قتل أو جرح
ولما فيها من بث الرعب والقلق والهلع فيهم، ولها فيها من تجرئة المسلمين عليهم
وتقوية قلوبهم وكسر قلوب الأعداء والإثخان فيهم ولما فيها من التنكيل والإغاطة
والتوهين لأعداء المسلمين وغير ذلك من المصالح الجهادية. ويدل لجوازها أدلة كثيرة،
وسأقتصر على ذكر البعض منها وهي كقوله
تعالى{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَهِ
وَالَلهَ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ})[20]،
فإن الصحابة رضي الله عنهم أنزلوها على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه
في ذلك. وقوله تعالى{وَأَعِدُوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِن
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَهِ وَعَدَوِّكُمْ}[21]
والعمليات الإستشهادية من القوة التي ترهبهم. وقوله عليه الصلاة والسلام (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)[22] ووجه الاستشهاد أن
هذا قد عرض نفسه للقتل ومع ذلك مدحه النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك العمليات
الاستشهادية[23].
2-عدم الجواز مطلقا "لأنها إنتحار محرم واستدلوا بأدلة تحريم
الإنتحار، وهو قول الشيخ بن باز والشيخ صالح الفوزان والشيخ عبد العزيز آل الشيخ و
الشيخ عبد العزيز الراجحي وغيرهم وقالوا: إن هذه العمليات ليست من جنس المبارزة
ولا من جنس إلقاء الرجل نفسه على الكردوس من الكفار لأسباب منها. أن المبارزة
وإلقاء المجاهد نفسه على الكردوس تكون عند التقاء الصفين في حال المعركة وأما هذه
العمليات فلا تكون كذلك بل تكون على أناس أمنين يأتيهم نفسه فيهم ولعله أيضا يقتل
من لا يجوز قتله كالنساء والصبيان والعجزة ونحوهم وليس هو كالبيات والنصوص إنما
جاءت في حال المعركة فلا يقاس عليها.
أن الملقي نفسه على الكردوس لم يقتل نفسه بيده بل قتله الكفار وقد ينجو
منهم وهو كثير في تاريخ المسلمين كالبراء في قصة رميه في حديقة بني حنيفة وغيره
كثير بخلاف الذي يفجر نفسه فإنه هو الذي قتل نفسه بيده لا أيدي الكفار. ما رواه
البخاري أن عامر بن الأكوع رضي الله عنه في غزوة خيبر بارز يهوديا فارتد إليه
ذبابة سيفه فقتله ومر النبي على أخوه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فوجده حزينا
فسأله فقال: إن الناس يقولون إن عامرا حبط عمله فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كذب من قاله إن له أجرين وجمع بين أصبعه غنه لجاهد مجاهد قل
عربي مشى بها مثله)[24].
ووجه "الإستشهاد أن الصحابة استشكلوا أمره حين قتل نفسه خطا فكيف بمن يقتل
نفسه عمدا"[25].
ومن هذا أخلص إلى أن العمليات الإستشهادية عمل مشروع وهو من الجهاد في سبيل
الله، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين فمنهم من يقول بجواز هذه
المسألة إذا كانت النية خالصة وفيها انتصار للإسلام وعدم سفك دماء المسلمين، عكس
الفريق الثاني الذي يرى عدم الجواز مطلقا لأنها انتحار محرم واستدلوا في ذلك بأدلة
تحريم الإنتحار لما فيها من إراقة دماء المسلمين وقتل من لا يجوز قتلهم كالصبيان
والنساء والعجزة ، وغيرهم وهذه العمليات هي التي دفعت ببعض شبابنا إلى الإلحاد كما
دفعت ببعض الآخر إلى الإرهاب.
·
التكفير وأثره في إعاقة وحدة الأمة.
في هذا المطلب سأتحدث إن شاء الله تعالى عن فتنة التكفير، وهذه فتنة خطيرة
بدأت تطل برأسها في بعض المجتمعات والفئات ينبغي أن يتنادى أهل العلم والإيمان
والصلاح إلى مقاومتها والتحذير منها. والكفر في اللغة الانكار و الجحود قال الراغب
الأصفهاني: "ويقال (كفر فلان) إذا اعتقد الكفر، ويقال ذلك: إذا أظهر الكفر
وإن لم يعتقد"[26]؛
ولذلك قال تعالى: "مَنْ كَفَرَ بِالَلهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ"[27].
أما في الإصطلاح فهو "إنكار ما علم ضرورة أنه دين سيدنا محمد – صلى الله عليه
وسلم – كإنكار وجود الصانع ونبوته عليه الصلاة والسلام وحرمة الزنا ونحو ذلك"[28].
قال الإمام الغزالي "كل حكم شرعي يدعيه مدع فإما أن يعرفه بأصل من أصول الشرع
من إجماع أو نقل أو بقياس على أصل، وكذلك كون الشخص كافرا إما أن يدرك بأصل،
والأصل المقطوع به أنه كل من كذب محمدا صلى الله عليه وسلم فهو كافر"[29].
وقال القرافي: "وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود
الصانع، أو صفاته العلية، أو جحد ما علم من الدين بالضرورة"[30].
وللحكم بتكفير المسلم شرطان أحدهما "أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء
مما يكفر. والثاني انطباق الحكم على من فعل
ذلك؛ بحيث يكون عالما بذلك قاصدا له. فإن كان جاهلا لم يكفر بذلك"[31].
وأما الوصف بالكفر فهو دائر بين حكمين: أحدهما "التحريم،
وذلك إذا كان من يوصف بالكفر مسلما باقيا على إسلامه، ولم يقم الدليل على كفره؛
لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَهِ فَتَبَيَّنُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا"[32].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا،
فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا في ذمته"[33].
وقوله "أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال،
وإلا رجعت عليه"[34].
وثانيهما الوجوب، "إذا كان وصف الكفر صادرا ممن هو أهل المفتين
والقضاة، وكان من وصف به مستحقا له ممن توافر فيه شروط الكفر سابقة الذكر"[35].
"فالتكفير عند أهل العلم خطير، له شروط وموانع بينها أهل العلم، فقد
يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولكنها لم تثبت
عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد تعرض له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من
المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء من
المسائل النظرية أو العلمية، هذا الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجماهير أئمة الإسلام"[36].
ومسائل التكفير تعتبر من أعظم المسائل التي
حدث فيها خلاف بين المسلمين، بل هي أول خلاف وقع في أمة الإسلام، وبدأت عنده إفتراق
الأمة إلى فرق وأحزاب، ولم ينج من شرر تلك الفرقة والفتنة إلا بمن تمسك بالنصوص من
الكتاب والسنة بفهم ما عليه الرعيل الأول.
حيث نجد فريقا يتسرعون في إطلاق الكفر، فيكفرون
بالكبيرة، ولا يحكمون بإسلام من نطق بالشهادتين، وصلى وصام، وأدى فرائض الإسلام،
وذلك كحال الخوارج ومن سار على نهجهم. ونجد فريقا آخر فرط أيما تفريط ومنع التكفير
منعا باتا، ورأى أن من تلفظ بالشهادتين لا يمكن تكفيره بحال؛ بل قالوا: إنه لا
يجوز تكفير شخص بعينه، وإنما إطلاق الكفر يكون على الأعمال. ومن هنا فهم لا يكفرون
أحدا أبدا حتى المرتدين، ومدعى النبوة، وجاحدي وجوب الصلاة؛ ونحو ذلك من الأمور
التي أجمع أهل العلم على خروج أصحابها من دائرة الاسلام.
أما أهل السنة فقد هداهم الله لما
إختلف فيه من الحق بإذنه، لإلتزامهم بالدليل الشرعي، فهم لا يمنعون التكفير
بإطلاق، ولا يكفرون بكل ذنب، ولم يقولوا أن التكفير المعين غير ممكن، ولم يقولوا
بالتكفير بالعموم دون تحقق شروطه وانتقاء موانعه في حق المعين، ولم يتوقفوا في
اثبات الوصف، بل يحسنون الظن بأهل القبلة الموحدين، وبمن دخل في الإسلام، أو أراد
الدخول فيه"[37].
ولقد نبه أهل العلم سلفا وخلفا إلى خطورة هذه المسألة وعظم شأنها وما يترتب
عليها من آثار وتبعات في الدنيا وفي الاخرة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: "إعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي
يتعلق بها الوعد في الدار الآخرة، ويتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة
وغير ذلك في دار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة المؤمنين، وحرم الجنة على
الكافرين، وهذه الأحكام الكلية في كل وقت وفي كل مكان"[38].
وقال ابن وزير: "وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين وجماهير العلماء
المنتسبين إلى الإسلام إخراجهم من الملة الإسلامية وتكثير العدو بهم وبين إدخالهم
في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرقة بتكلف
التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ويقوي
الإسلام ويحقن الدماء ويسكن الدماء"، ثم قال: "وقد عوقبت الخوارج أشد
العقوبة وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين، فلا يأمن المكفر أن يقع في
مثل ذنبهم، وهذا خطر في الدين جليل، فينبغي شدة الاحتراز فيه"[39].
ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله "وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين
وليس هو كذلك"، وقال: "وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا
في العقائد، وحكموا بكفر بعضهم بعضا"[40]،
ويقول أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمان أبا بطين رحمه الله:" وبالجملة
فيجب على من نهج نفسه ان لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله،،
وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل عن
الإسلام من أعظم أمور الدين"[41].
إذن فمسألة تكفير المسلم
لأخيه المسلم من المسائل الكبار وقضايا العظام، لما يترتب عليها من آثار خطيرة على
الأمة الإسلامية مما يؤدي إلى تفرق المسلمين وتخلفهم...، وقد حذر العملاء سلفا
وخلفا إلي خطورة هذه المسألة وعظم شأنها، وتعددت فيه الآراء، فهناك من أجاز هذه
المسألة بدعوى أن يكون وصف صادر ممن هو أهل له من الدعاة والمفتين وتوفرت فيه شروط
الكفر، في حين نجد فريق آخر عارض هذه المسألة (تحريم) وذلك إذا كان ممن يوصف
بالكفر مسلما باقيا على إسلامه فهنا لا يجوز إطلاق الكفر عليه ما لم يقم الدليل
على كفره. فهذه المسألة إذن لا يمكن الخوض فيها أو إصدار الحكم على شخص معين
بالكفر إلا بدليل من القرآن والسنة، وأن تتحقق في حقه شروط التكفير.
[1] لسان العرب لابن منظور،
مادة جهد".
[3]معوقات
الجهاد في العصر الحاضر تحليلا وتقويما لعبد الله بن فريح العقلا،ص22.
[4] -مجموع الفتاوي، ج10، ص192-193.
[4]
[9] -سورة التوبة، الآية 123.
[10] -سورة التوبة، الآية 41.
[11] -أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب وجوب التفسير وما يجب
من الجهاد والنية، رح 1040_ومسلم في كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة
على الاسلام والجهاد والخير وبيان معنى ر
ح 1477.
[12] أخرجه
الترمذي،كتاب الحدود،باب ماجاء فيمن لايحب عليه الحد،رح 1423.
[13] -سورة النساء، الآية 95.
[14] -سورة الفتح، الآية 17.
[15] سورة
التوبة،الآية91.
[22] أخرجه
النسائي(2/187)وأحمد(4/315)والبيهقي،والضياءالمقدسي في "الأحاديث
المختارة"(ق/