التأويل هو أحد القضايا التي أسالت الكثير من
الحبر في مختلف المدونات القديمة والحديثة على اختلاف مشاربها وتعدد روافدها وعبر
مختلف الأزمنة التاريخية، وعلى جميع مختلف الأصعدة الفكرية، كما اختلفت دلالة
معناه الاصطلاحي باختلاف المسارات العقائدية والفكرية، سواء على مستوى الفرق أو
المدارس، أو على مستوى المهتمين بأسراره أو الدارسين لأبعاده الدينية عقيدة وأصولا
وفقها، وقد تباينت دلالاته باختلاف التصورات والمناهج عبر رحلة المصطلح خلال
المراحل التاريخية للفكر الإنساني، فالدارسون حسب آلياتهم المختلفة منهم من جعل
مصطلح التأويل يقتصر على مستوى النصوص الدينية، ومنهم من وسع نطاقه على مستوى
النصوص الدينية والأدبية على حد سواء.
وهذا
ما نعرض له في هذا المبحث ببسط الحديث عن التأويل عند المتكلمين وعند علماء اللغة
والبلاغة وأيضا عند الفقهاء الأصوليين.
Ø
التأويل عند المتكلمين
يختص التأويل عند المتكلمين بالآيات القرآنية
المتشابهة، كما ورد ذلك في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ
إِلَّا اللَّهُ»[1]. وقد ذهبت طائفة من المتكلمين إلى تأويل بعض ألفاظ
القرآن بالمعنى الذي يتفق مع معتقداتها. فأوّلوا الآيات المتشابهة من القرآن على
مقتضى ما تعقله عقولهم، لا على مقتضى مراد الله تعالى[2]، ويبدوا أن الشبهة التي ألجأت بعض المتكلمين
الخلف إلى التأويل هي مسألة تنزيه المولى عز وجل عن مشابهة مخلوقاته، ولذلك لجأوا
إلى تأويل الآيات والأحاديث التي ورد فيها وصف الله سبحانه وتعالى ببعض صفات
مخلوقاته وهذا هو ما نلتمسه من خلال عرضنا لبعض تأويلاتهم.
·
أولاً: المعتزلة
أما المعتزلة فقد غلوا في التنزيه حتى وصلوا إلى حد تعطيل صفات
الله ونفيها عنه عن طريق التأويل وهو ما يبدوا واضحاً في حديث القاضي عبد الجبار
عن الصفات والرد على مخالفيه حيث قال في قوله تعالى: «لَّكِنِ اللهُّ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ وَالمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً»[3] وقوله تعالى: «اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ
لاَ تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ
مَنْ ذَا اَلذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ»[4]. وبما يستدلون بالسمع على إثبات
القدرة الله تعالى فيقولون: وإنه تعالى قال: «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»[5] وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ اَلذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمُ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَآثَاراً فِي الاَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّنَ
اللَّهِ مِنْ وَاقٍ»[6]، ثم قال: "والأصل في الجواب عن
ذلك أن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن، لأن صحة السمع ينبني على كونه
عدلاً حكماً، وكونه حكيماً ينبني على أنه تعالى عالم لذاته، فكيف يصح ذلك"[7].
ثم قال في تأويل هذه الآيات: "ثم يقال لهم: لا تعلق لكم بالظاهر، أي ظاهر الآيات
وإذا عدلتهم عن الظاهر فلستم بالتأويل أولى منا، فنحمله على وجه آخر يوافق الدلالة
العقلية، فنقول: قوله تعالى: «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ»[8] أي وهو عالم به، وقوله تعالى: «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ»[9] أي ونحن عالمون به، وقوله تعالى: « وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ »[10] أي معلوماته، والعلم قد يستعمل في العالم مرة، وفي
المعلوم مرة أخرى، يقال جري هذا بعلمي، أي وأنا عالم به"[11] ثم قال: "ثم نقول: قوله تعالى:
« هُمُ
أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً »[12] لا يجوز حمله على ظاهره، لأن الشدة
والصلابة إنما تستعمل في الأجسام والله تعالى ليس بجسم، فيجب حمله على وجه يوافق
دلالة العقل، فنقول: قوله: «هُمُ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» المراد به وصف اقتداره وأنه أقدر
القادرين"[13].
ويبدوا أن الشبهة التي أدت بالمعتزلة إلى تأويل هذه الصفات
هي اعتقادهم أن إثبات هذه الصفات يقتضي مماثلة الله لمخلوقاته وهو محال، قال
القاضي عبد الجبار: "فلو كان له علم قديم لوجبت مماثلته له في كل صفة لأن
الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الشركة في سائرها ويوجب المماثلة"[14]، ولذلك نجدهم أولوا سائر الصفات الخبرية من
الوجه والعين واليد، فقد أولوا صفة الوجه بأنها هي ذات الله تعالى ولذلك قالوا في
قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»[15] قالوا: "فأثبت لنفسه الوجه، وذو الوجه لا يكون إلا جسماً،
وجوابنا عن هذا، أن المراد به كل شيء هالك إلا ذاته أي نفسه"[16]، قال عبد الجبار: "والوجه
بمعنى الذات مشهور في اللغة، يقال: وجه هذا الثوب جيد أي ذاته جيدة"[17].
وكان شيخهم أبو الهذيل العلاف يقول: "لله وجها هو
هو"[18] وكذلك صفة العين التي وردت في قوله تعالى: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»[19]، فأثبت أن له عين غير أن المعتزلة أولوا العين هنا بمعنى
العلم وهو ما قال به القاضي عبد الجبار حيث قال: "والأصل في الجواب عن ذلك،
أن المراد به لتقع الصنعة على علمي، والعين قد تورد بمعنى العلم، يقال جرى هذا
بعيني أي جرى بعلمي"[20].
وأما اليد الواردة في قوله تعالى: « لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »[21] وقوله تعالى: «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ»[22]، فقد أول المعتزلة اليد هنا تارة
بمعنى القوة وتارة بمعنى النعمة، يقول عبد الجبار: "والجواب عنه أن اليدين
ههنا بمعنى القوة، وذلك ظاهر في اللغة، يقال: مالي على هذا الأمر يد، أي قوة"[23]، وقوله تعالى: « بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» الأصل في الجواب عن ذلك، أن اليد
ههنا بمعنى النعمة، وذلك ظاهر في اللغة، يقال: لفلان على مِنة، أي منة ونعمة"[24]، وهو ما نقله لنا البغدادي عن
الجبائي حيث قال: "وزعم الجبائي أن اليد المضافة إليه بمعنى النعمة وهذا خطأ
لأن الله تعالى أخبر أنه خلق آدم بيديه والنعمة مخلوقة والله لا يخلق مخلوقاً
بمخلوق"[25].
ومثل هذا التأويل أنكره أئمة أهل العلم وعدوه من التأويل
الباطل يقول ابن القيم: "ومن التأويل الباطل: تأويل أهل الشام قوله صلى الله
عليه وسلم لعمار: " تقتلك فئة باغية"[26]، فقالوا: نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه
بين رماحنا، وهذا التأويل مخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي باشر
قتله لا من استنصر به، ولهذا رد عليهم من هو أولى بالحق والحقيقة منهم فقالوا:
فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه،
لأنهم أتوا بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين[27]، وكتأويل قوله تعالى: «لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»[28] بأن اليد هي القدرة أو النعمة،
فوقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه، ثم تعدى الفعل
إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم، وجعل ذلك خاصة خص بها صفيه آدم دون
البشر كما خص المسيح، بأنه نفخ فيه من روحه وخص موسى بأنه كلمه بلا واسطة فهذا مما
يحيل تأويل اليد في النص بالنعمة"[29].
ويبدوا أن تأويل صفات الله تعالى وإخراجها عن ظاهرها المراد
هو من أكبر سمات أهل الاعتزال وهو ما قرره زعماء وشيوخ المعتزلة فها هو النظام،
يقول: "معنى قولي عالم إثبات ذاته ونفي الجهل عنه، ومعنى قولي قادر إثبات
ذاته ونفي العجز عنه، ومعنى قولي حي إثبات ذاته ونفي الموت عنه، وكذلك قوله في
سائر صفات الذات على هذا الترتيب"[30].
وهذا إن دل إنما يدل على أن المعتزلة عطلوا جميع صفات الله
سبحانه وتعالى التي وصف بها نفسه في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق
تأويل النصوص بحجة التنزيه أو عدم مشابهة الله لمخلوقاته.
ويظهر مما سبق أن التأويل بهذا المفهوم هو تعطيل وتحريف
للنصوص عن المعنى الذي دلت عليه، وبالتالي هو إبطال لصفات الله سبحانه وتعالى التي
وصف بها نفسه ووصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتقرر من ذلك أن تأويل اللفظ
بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق ولا قرينة تقتضيه، هو أمر لا يمكن أن يقع في
كلام الله سبحانه وتعالى، ولو قصد المولى عز وجل مثل ذلك للحق بالكلام قرائن تدل
على المعنى المطلوب حتى لا يوقع السامع في اللبس، فإن الله تعالى أنزل كلامه
بياناً وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يلحق باللفظ قرينة تدل على المعنى
المطلوب لم يكن بياناً ولا هدى.
·
ثانيا: التأويل عند الجهمية
يقول الجرجاني: "الجهمية هم أصحاب جهم بن صفوان، قالوا:
لا قدرة للعبد أصلاً لا مؤثرة ولا كاسبة بل هو بمنزلة الجمادات والجنة والنار
تفنيان بعد دخول أهلهما، حتى لا يبقى موجود سوى الله تعالى"[31].
وينتهي مثل هذا القول إلى إنكار تعطيل صفات الله تعالى كما
قال ابن القيم: "التوحيد توحيد الجهمية: وهو مشتق من توحيد الفلاسفة، وهو نفي
صفات الرب كعلمه، وكلامه، وسمعه، وبصره، وحياته، وعلوه على عرشه، ونفي وجهه،
ويديه، وقطب رحى هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته"[32].
ويبدوا أن تعطيل صفات الله سبحانه وتعالى هي نقطة يلتقي
عندها جميع أصحاب التأويل ولذلك يقول ابن تيمية: "ثم ظهر بهذا المذهب الجهم
بن صفوان، ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة، وهؤلاء أول من عُرف عنهم في الإسلام أنهم
أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام، وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من
الأعراض، وقالوا: الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة، وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث
فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها[33]، ثم إن هؤلاء الجهمية أصحاب هذا الأصل
المبتدع احتاجوا أن يلتزموا طرد هذا الأصل فقالوا: إن الرب لا تقوم به الصفات
والأفعال فإنها أعراض وحوادث، وهذه لا تقوم إلا بجسم والأجسام محدثة، فيلزم أن لا
يقوم بالرب علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا رحمة ولا رضا ولا غضب ولا غير ذلك
من الصفات، بل جميع ما يوصف به من ذلك فإنما هو مخلوق منفصل عنه"[34].
ولذلك وصف الشهرستاني الجهم بن صفوان قائلاً: "من
الجبرية الخالصة وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية، وزاد عليهم بأشياء:
منها قوله: لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها
خلقه، لأن ذلك يقضي تشبيهاً، فنفي كونه حياً عالماً، وأثبت كونه: قادراً، فاعلاً،
خالقاً؛ لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة، والفعل، والخلق.
ومنها إثباته علوماً حادثة للباري تعالى لا في محل، حيث قال:
لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه"[35].
ويتضح من ذلك أن الجهمية أنكرت الصفات جميعها، بدعوى أنها من
صفات المحدثات وخصائص المخلوقات، وقالت إن ظاهرها يفيد التشبيه بالمخلوق، أي أن ما
يفهم من نصوصها يماثل ما يفهم من صفات المخلوقات فظاهر معناها التمثيل وهو مستحيل،
فيجب التأويل وبذلك وافقوا المعتزلة في نفي الصفات لنفس الشبهة.
·
ثالثا: التأويل عند الأشاعرة
تظل مشكلة حقيقة الفعل الإلهي والفعل
الإنساني تدور في إطار جدلي عند المتكلمين فقد رفض الأشاعرة موقف أهل الجبر القائل
بأن العباد خالقون لأفعالهم "وسعى الأشاعرة في الظاهر إلى الآراء والحلول
الوسطى"[36]
وفي ذلك يقول ابن رشد "وأما الأشاعرة فإنهم راموا أن يأتوا بقول وسط بين
القولين، فقالوا إن للإنسان كسبا، وأن المكتسب به والكسب مخلوق لله تعالى"[37]
ففعل العبد لا يعد فعلا له على وجه الحقيقة مخلوق لله، ومفعول لله أيضا، فالأفعال
كلها - على مذهب الأشاعرة- ليست خلقا للإنسان وإنما خلق وإيجاد لله، ويذهب
الأشاعرة إلى أن فكرة الكسب ومفادها أن الإنسان يمكنه أن ينسب إلى نفسه الأفعال
التي خلقها الله فيه ويمكن أن يعد ذلك من كسبه، وفي ذلك يقول أبو الحسن الأشعري:
"إن الله تعالى أجرى سنته بأن يحقق الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له،
ويسمى هذا الفعل كسبا فيكون خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا وكسبا من العبد
حصولا تحت قدرته"[38]
ويحتج الأشاعرة على قولهم بالكسب بالآية الكريمة: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى»[39]
ويتأولونه بقولهم "وما رميت من حيث الخلق، إذ رميت من حيث الكسب، ولكن
الله رمى من حيث الخلق والكسب"[40]
فالأشاعرة ينسبون الأفعال إلى الله من حيث الخلق والإبداع، وينسبونها إلى العبد من
حيث الكسب، ويعتمدون على تعليل فكرة الكسب إضافة إلى قوله تعال: «كُلُّ اِمرِئٍ بِمَا كَسَبَ
رَهِينٌ»[41]
فيتأولونها حسب مذهبهم بأن الله يخلق في العبد الفعل والاستطاعة والعبد يتصرف
بهذا الفعل وكما يشاء، فله أن يوجهه إلى فعل الخير أو الشر فيكسب بذلك ثوابا أو
يكتسب عقابا، فالعبد يتحمل تبعة أفعاله، من حيث أن له حرية الاختيار. غير أن أفعال
الإنسان الاختيارية عند الأشاعرة تتم له بقدرة حادثة تكون "حاصلة تحت القدرة
الإلهية، متوقفة على اختيار القادر، ولا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث"[42].
والحق أنّ الأشاعرة وقعوا في تناقض، ويبدوا
ذلك واضحا عند مقارنة رأيهم في الكسب برأيهم في خلق العالم، فهم يذهبون إلى أن
العالم مؤلف من أجسام وهي تتكون من جواهر وأعراض، وهما متلازمان، الأعراض حادثة،
وبالتالي فالجواهر حادثة بالتلازم، فالأجسام إذن حادثة، وعليه فالعالم حادث والله
هو الذي أحدث العالم يفعل فيه فعلا مباشرا، إذ هو العلة المباشرة لجميع التغيرات
التي تطرأ عليه، ولا توجد علل ثانوية، وفي ذلك يقول أبو المعالي الجويني:
"فمذهبنا أن كل حادث مراد الله تعالى حدوثه، ولا يختص تعلق مشيئة الباري بصنف
من الحوادث، دون صنف، بل هو تعالى مريد لوقوع الحوادث خيرها وشرها ونفعها
وضرها"[43]
فإذا ذهب الأشاعرة إلى أن الله يخلق في كل لحظة جميع الأشياء سواء الجواهر
والأعراض والأجسام وأفعال الإرادة الإنسانية والنتائج التي تنسب إلى هذه الأفعال
"فإن هذا قد أدى بهم إلى القول بأنه ليس في الكون إلا فاعل حقيقي واحد وهو
الإرادة الإلهية التي قدرت أولا ومسبقا كل شيء"[44]
فإذا قال الأشاعرة نفي العلل الثانوية، وأنه لا تأثير للقدرة الحادثة فقد ترتب على
ذلك ألا توجد قوانين للطبيعة فمثلا النار لا تحدث الإحراق، أو أنه ليس من طبيعة
النار أن تحرق الخشب، ولا من طبيعة الخشب أن يحترق بالنار، ولكن الله يخلق الإحراق
حين تتصل النار بالخشب"[45]
ففعل الإحراق أثر مباشر فعل لله تعالى، النار والخشب سوى مناسبتين للفعل الإلهي.
وبناء على ما سبق يكون الأشاعرة قد أنكروا
مبدأ السببية "وذلك طبقا لفكرتهم عن العلة والمعلول وإنكارهم للترابط
بينهما"[46]
فقد جعلوا العلاقة بين السبب والمسبب مجرد اقتران لا ضرورة عقلية له، وبإنكارهم
لمبدأ السببية لا يمكنهم القول بالحرية الإنسانية على نحو ما اعتقدوا في مذهبهم
الكسبي، وذلك لسبب في غاية البساطة وهو أنهم لم يجعلوا مناسبة بين السبب والمسبب
حين جعلوا الله يتدخل باستمرار في كل فعل من أفعال العباد تدخلا مباشرا، وطالما أن
أفعالنا السيئة خلق لنا، وبما أن الإرادة الإنسانية لا تأثير لها في مجرى حوادث
العالم، وبما أن هذا هو موقف الأشاعرة المفسر للفعل الإنساني وبالضرورة فإنه يتعذر
قبول فكرة الكسب الأشعرية.
ومهما يكن من أمر فقد استخدم الأشاعرة
التأويل في مسائل التشبيه والتجسيم وتأولوا الآيات الدالة على ذلك، فقالوا إن وجه
الله إشارة إلى الله نفسه ويده إشارة إلى قدرته، وعينه إشارة إلى رؤيته للأشياء
وإحاطته بها جميعا. وتأولوا الاستواء على العرش وقالوا كان ولا مكان، ثم فخلق
العرش والمكان، ولم يحتج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه، إلا أنهم
ذهبوا إلى أن إمكان رؤية الله مخالفين المعتزلة في المسألة، ولكنهم لم يقبلوا أن
تكون هذه الرؤية بالصورة الإنسانية، فالله يرى من غير حلول وحدود ولا تكييف كما
يرانا سبحانه، قال الأشعري: "كل موجود يصح أن يرى والباري موجود فيصح أن يرى،
وقد ورد على السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة... ولا يجوز أن تتعلق الرؤية على
جهة ومكان ومقابلة. واتساع شعاع أو على سبيل انطباع فإن كل ذلك مستحيل"[47].
والتأويل عند الفرق الكلامية بحث مستفيض، متشعب الأجزاء، إلا أنني حاولت قدر
استطاعتي أن أبرز الجوانب التي تمثل موقفهم من التأويل وإعمالهم له بما يوضح لنا
أنهم يقومون بتوجيه الدلالة طبقاً لاتجاهاتهم الخاصة، مذهبية كانت أم سياسية، وقد
سلطوا عقولهم على النصوص وتجرؤا على مالم يتجرأ عليه غيرهم. فإذا ما أدّاهم النظر
إلى رأي وظهرت أمامهم آيات تخالف هذا الرأي أوّلوه بما يوافقه.
Ø التأويل عند علماء اللغة
لا ريب أن التأويل عند النحويين هو عبارة
عن دراسة تراكيب العربية، من جهة الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والتضمين
والحمل على المعنى وتقدير الإعراب، أي: تخريج كل ما جاء على غير قواعد النحويين
وبأي طريقة من طرائق التخريج، فاستعمل النحاة مصطلح (التوجيه) أحياناً، ومصطلح
(التأويل) أخرى، فالتأويل إذن هو توجيه النص، ويطلقون التوجيه ويريدون به تأويل
النص، وأحياناً يطلقون الحمل[48].
ذكر السيوطي في الاقتراح نقلاً عن أبي حيان إنه قال:
"وإنما يسوغ التأويل إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأول"[49]،
وابن الانباري أيضاً سبق بقوله من جملة ما ذكره في الاعتراض على الاستدلال بالنقل
من جهة المتن، ومثّل لهُ بقوله: "مثل أن يقول الكوفي: الدليل على جواز ترك
صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر قول الشاعر:
وممن
ولدوا عامِــ رُ ذو
الطول وذو العرض
فترك صرف عامر وهو منصرف؛ فدل على جوازه،
فيقول له البصري: إنما لم يصرفه لأنه ذهب به إلى القبيلة، والحمل على المعنى كثير
في كلامهم"[50].
ويبدوا كما ذكر الدكتور محمد عيد أن
اللغويين قد استخدموهُ بدون تعريف أول الأمر، ثم عرّفوه في العصر المتأخر.
ومن
الأهمية بمكان لابد أن نلتفت إلى نقطة مهمة، بل نقطتين وهما متى نؤول النص نحوياً،
ونطاق هذا التأويل؛ فالتأويل النحوي نريد أن نقصره على الموارد والمواضع التي يحدث
هذا التأويل، نحو قول مُزاحم العقيلي:
فقالوا تعرّفها المنازل
من منى
وما كل من يغشى منى انا عارف[51]
فقد جاءت (كلُّ) مرفوعة، وكان يجب أن تأتي
منصوبة بوقوع (عارف) عليها، فيقول الفرّاء تعليلاً لذلك: "فلم يقع (عارف) على
كل، وذلك أن في (كل) تأويل: وما من أحد يغشى منًى أنا عارف، ولو نصبت لكان صواباً،
وما سمعته إلا رفعاً"[52]،
فالتأويل له غاية نحوية؛ إذ لم يأت بفرض فهم النص، وإنما جاء للتعليل للإعراب.
فالتأويل عند النحاة هو خروج الكلام عن
مقتضى القاعدة؛ لأن الكلام العربي لا بد أن يأتي على هيئة نموذج معروف، وطبقاً
لقواعد محددة لا شذوذ فيها ولا تناقض، فإذا جاء المبتدأ مثلاً في غير موضعه من
الخبر، أو كان الاسم منصوباً بلا ناصب ملفوظ فهناك حاجة ماسّة للبحث عن العلل،
ولذا لجأوا إلى تأويل النص تأويلاً عقلياً، أي: أضافوا إليه ما ينقصه أو حذفوا منه
ما زاد عليه، أو اضمروا ما لابد من وجوده، انظر إلى وجود التأويل عند النحاة وكأنه
يمثل صنعة ذهنية، قال الاشموني في قوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»[53]
النصب يترجح؛ لأنه نص في عموم خلق الأشياء خيرها وشرها بقدر، وهو المقصود، وفي
الرفع إيهام كون الفعل وصفاً مخصصاً، و(بقدر) هو الخبر، وليس المقصود إيهامه وجود
شيء لا بقدر، لكنه غير مخلوق، وإنما كان النصب نصاً في المقصود؛ لأنه لا يمكن جعل
الفعل، ومع النصب لا يمكن جعل الفعل وصفاً؛ لأن الوصف لا يعمل فيما قبله، فلا يفسر
عاملاً.
فالتأويل وجد في النحو نتيجة نظر عقلي عميق،
كانت له أسبابه غير المباشرة من تأثر النحاة بطريقة الباحثين في العلوم التي
صاحبته وعاصرته وبخاصة تأويل التفسير، أما أسبابه المباشرة حقاً فهي الأصول
النحوية الأخرى حيث اعتصر النحاة النصوص اللغوية اعتصاراً لتتوافق مع تلك الأصول
وان بعض النصوص لا يمكن حملُها على الظاهر؛ إذ يؤدي إلى التناقض والابتعاد عن
الحقيقة العلمية والواقع.
وقد ارتبط مفهوم التأويل كما يذكر الدكتور
تمام حسان بلفظ الرد كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تًأْوِيلاً»[54]،
وقال ابن أم قاسم المرادي في الجنى الداني: "تنبيه: مذهب سيبويه والمحققين من
أهل البصرة أن (في) لا تكون إلا للظرفية حقيقة أو مجازاً، وما أوهم خلال ذلك رد
بالتأويل إليه"[55].
ويتابع الدكتور تمام حساّن بقوله:
"فمن (أوّل) فرعاً فقد جعلَهُ (يئول) إلى أصله، أي: فقد (ردّهُ) إلى
أصله"[56].
فالتأويل عند النحاة باختصار يحتاج إليه
عندما يكون النص أو الكلام فيه خروج عما تعارفت عليه العرب، فإن وجه ذلك الخروج أو
التعارض لجأوا إلى التأويل[57].
Ø
التأويل عند علماء البلاغة
لم تكن الدراسة الأدبية بعد نزول القرآن
بمعزل عن مجال دراسة النص الديني، فقد لا تخلو كتب هذه الدراسة من الشواهد الأدبية
للاستعانة بها في الفهم والترجيح كما أن النص الديني في حدّ ذاته يتميز بخصائص
أدبية وفنية، أثارت بواعث المتذوقين إلى الكشف عن هذه الخصائص فشرعوا يدرسونها،
فتمثلت لهم في إعجاز هذا النص، كما يكشف عن ذلك عبد القاهر الجرجاني في دلائل
الإعجاز، إذ عكف على البحث عن أسرار إعجازه، فكشف عن جوانب عدة التي جعلت منه نصاً
معجزا كالنظم.
فالقرآن وهو قمة النصوص الدينية يحفل
بأسرار، وإشارات في أشكال التعبير من إيجاز وإطناب وعذوبة واتساق، كما ينطوي على
ضرب الدلالات المختلفة منها ما يعرف عن قرب ومنه ما هو في حاجة إلى نظر وفكر وتدبر
وروية.
ويشير السيد أحمد خليل إلى أن "هذه
الخصائص الفنية الرفيعة دعت إلى لون آخر من ألوان التذوق لم يظهر ظهورا بيِّنا
إلاّ بعد أن استقرت الدراسات الأدبية والبلاغية منذ أواخر القرن الثالث الهجري وهو
بدء ما ظهر في التفسير الأثري من كثرة الاستعانة بالشواهد الأدبية في الفهم
والترجيح، وما يروي عن عمر من أنه قال التمسوا الشعر فإن فيه تفسير القرآن لم يظهر
ظهورا قويا في العصر الأول إذ أن القول بالرواية في التفسير قد دعت إليه دواع قوية
بينا القول فيها فيما سبق مما باعد بين التفسير وبين الأدب في هذا العصر، هذا
اللون من التذوق هو ما نسميه بالتأويل الأدبي"[58].
ومن خلال دراسة تطبيق ظاهرة التأويل في
مختلف المجالات، نحس أن هناك قرباً بين ما تهدف إليه تلك الظاهرة وبين الدرس
الأدبي بصفة عامة والبلاغي بصفة خاصة، فظاهرة التأويل تكشف عن الدلالة الثانية أو
الدلالة المجازية، وهذا أحفل بعناية الدارس وتقديره، كما أنها- أي ظاهرة التأويل –
تتعلق بالأسلوب لا بالمفردات للتوصل إلى قصد السياق.
يقول في ذلك الأستاذ عبد المحسن سلام:
"ولقد اعتبرت البلاغة في القول الوصول إلى كُنْه ما في القلب أو التعبير
الصحيح عن الذات، وقد نبه علماء البلاغة إلى أهمية المدركات والمعاني وأعطوها
الأهمية الأولى"[59].
وإلى أكثر من ذلك يشير عبد القاهر
الجرجاني في حديثه عن اللفظ يطلق ويراد به غيره: "أن لهذا الضرب اتساعاً
وتفنناً لا إلى غاية، إلاّ أنه على اتساعه يدورُ في الأمر الأعم على شيئين: «الكناية»
و«المجاز»"[60].
فمن الواضح أن هدف الكناية هو نفس هدف التأويل، فكلاهما يؤتى فيه بالألفاظ لا يراد
بها ظاهرها إنما يراد معنى المعنى.
فالتأويل بكافة مستوياته له صلة وثيقة
بالبلاغة، فنبني بالتأويل والبلاغة علاقة تأثر وتأثير فالتأويل يحاكي "كثيرًا
من الأشكال البلاغية، التي كانت ميزة من مزايا علم الجمال اللغوي، فكلاهما يهتم
بالمعنى الثاني للنصوص، فإذا كانت الاستعارة والتورية والكناية تلمح ولا تصرح،
وتستعمل في الألغاز، فإن التأويل يعمل على بيان تلك الإشارات، وإظهار حقيقة القصد
وراءها، باحثاً عن ظروف النص وملابساته"[61].
فإذا ورد في أسلوب بلاغي والبلاغة قوام
الأسلوب الأدبي "هذه المرأة نؤوم الضحى"[62]
يمكن لنا أن نتوصل عن طريق الفكر والروية وإعمال العقل إلى ما تشير إليه هذه
العبارة، وهو أنها امرأة مترفة مخدومة، والتأويل يقوم بمثل هذا العمل في صرف ألفاظ
العبارة الأولى من معناها الظاهر إلى المعنى المقصود.
وهنا يدخل التذوق في معرفة المراد من تلك
الأساليب، والتذوق يدخل في مجال البلاغة خاصة، وإدراك الأساليب البلاغية يعين
كثيرا على تذوق النص الديني، ويساعد في فهم النص وتأويله بما يوافق مقتضاه، وقد
ذكر الجرجاني ما يقتضي بمؤول النص الديني من معرفة الأسلوب ومقاصده وتذوق إيحاءاته
ومراميه، ليتجنب الوقوع في فاسد التأويل أو باطله، بحيث يقول: "لابد لكل كلام
تستحسنه، ولفظٍ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومةٌ، وعلَّةٌ معقولةٌ،
وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صِحة ما ادعيناهُ من ذلك دليل وهو باب
من العلم إذا أنت فتحته، اطَّلعت منه على فوائد جليلة ومعانٍ شريفة، ورأيتَ له
أثراً في الدين عظيماً، وفائدةً جسيمة، ووجدته سبباً إلى حَسْمِ كثيرٍ من الفساد
فيما يعود إلى التنزيل وإصلاحِ أنواعٍ من الخَلَل فيما يتعلق بالتأويل"[63]
ومثال ذلك أن من نظر قوله تعالى: «قُلُ ادْعُوا اللَّهَ أَوُ ادْعُوا
الرَّحْمَانَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ اَلْحُسْنَى»[64]
ثم لم يعلم أن ليس في «ادعوا» الدعاء (فهو من صيغ الأمر المنصرفة إلى معنى الدعاء)
وإنما يعلم أن معناها الذكر بالاسم، وأن في الكلام محذوفاً، والتقدير: قل ادعوه
الله أو ادعوه الرحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى.
يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا:
"كان بغرض أن يقع في الشرك من حيث أنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره
خرج ذلك به إلى إثبات مدعوين، تعالى الله عن أن يكون له شريك"[65]
فالتأويل في هذا المقام لم يخرج في مفهومه عن الإطار العام للتأويل من صرف اللفظ
عن ظاهره للتعرف على ما وراء هذا الظاهر من دلالات، فالنص قد يكون مشبعا
بالتشبيهات والمجازات والتلميحات دون التصريح، مما يستدعي التأويل للوصول إلى
الأغراض والمقاصد.
ويمكن القول فيما سبق، أن ظاهرة التأويل
أثرت وتأثرت بموضوعات البلاغة، فكشفت عن المعنى الثاني أو الدلالة المجازية
للكلمات، وتعلقت بالأسلوب للتوصل إلى قصد السياق وبيان مراميه، كما عملت على اتساع
مفاهيم النص، وتفجير طاقاته بإضافة ما يمكن أن يحتمل من معانٍ إليه "على هدى
من منطق اللغة وطرقها في الاستدلال"[66].
Ø
التأويل عند الفقهاء و الأصوليين
إن التأويل "كان ولا يزال مجالا خصبا عند الأصوليين، ومادة أساسية
يفسرون على ضوئها النصوص، ويعطونها صبغة قانونية يمكن للفقيه والأصولي أن يسير على
هديها، ويقرر انطلاقا منها أحكاما وقواعد هو بأمس الحاجة إليها"[67].
ولبيان ذلك نورد فيما يلي سلسلة من تعاريفهم التي رصدوا بها مفهوم التأويل وضبطوا
بها حقيقته:
عرف الإمام الغزالي رحمه الله التأويل
فقال: "هو عبارة عن احتمال يعضده دليل، يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي
يدل عليه الظاهر"[68].
وقد انتقد الإمام الآمدي الإمام الغزالي
-رحمهما الله- في حده للتأويل حيث قال: تعريفه غير صحيح وذلك لأسباب:
أولاً: لأن التأويل ليس هو نفس الاحتمال الذي حمل اللفظ عليه،
بل هو نفس حمل اللفظ عليه، وفرق بين الأمرين.
ثانياً: إنه غير جامع، فإنه يخرج منه التأويل بصرف اللفظ عما هو
ظاهر فيه إلى غيره بدليل قاطع غير ظني، حيث قال: يعضده دليل يصير به أغلب على الظن
من المعنى الذي دل عليه الظاهر.
ثالثاً: لأنه أخذ في حد التأويل من حيث هو تأويل، وهو أعم من
التأويل بدليلٍ؛ ولهذا يقال: تأويل بدليل، وتأويل من غير دليل. فتعريف التأويل على
وجهٍ يوجد معه الاعتضاد بالدليل لا يكون تعريفاً للتأويل المطلق، اللهم إلا أن
يقال: إنما أراد تعريف التأويل الصحيح دون غيره.
والحق في ذلك أن يقال، أما التأويل، من
حيث هو تأويل مع قطع النظر عن الصحة والبطلان، هو حمل اللفظ على غير مدلولهِ
الظاهر منه، مع احتماله له بدليلٍ يعضدهُ.
وإنما قلنا (حمل اللفظ على غير مدلوله)
احترازاً عن حمله على نفس مدلوله. وقولنا (الظاهر منه) احتراز عن صرف اللفظ
المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر، فإنه لا يسمى تأويلاً. وقولنا (مع احتماله له)
احتراز عما إذا صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى ما لا يحتمله أصلاً، فإنه لا يكون
تأويلاً صحيحاً. وقولنا (بدليل يعضده) احتراز عن التأويل من غير دليل، فإنه لا
يكون تأويلاً صحيحاً أيضاً. وقولنا (بدليل يعم القاطع والظني) وعلى هذا فالتأويل
لا يتطرق إلى النص، ولا إلى المجمَل، وإنما يتطرق إلى ما كان ظاهراً لا غير[69].
وعرفه الإمام الشوكاني: "حمل الظاهر
على المحتمل المرجوح"[70].
وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد، فإن
أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد: بدليل يصيره راجحاً، لأنه بلا دليل، أو مع
دليل مرجوح، أو مساوٍ فاسدٍ[71].
وعند ابن تيمية: "هو صرف اللفظ عن
الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح"[72].
وعرفه الجويني فقال: "رد الظاهر إلى
ما إليه مآله في دعوى المؤول"[73].
وعرفه أبو زهرة: "هو إخراج اللفظ عن
ظاهر معناه إلى معنى آخر يحتمله، وليس هو الظاهر فيه"[74].
وعلى ما يبدوا هذا التعريف قد أسقط قيداً
هاماً في التعريف، وهو «الدليل» الذي يعضده ذلك الاحتمال؛ لأن مجرد الاحتمال غير
كاف في صحة التأويل[75].
وعرفه وهبة الزحيلي بقوله: هو صرف اللفظ
عن معناه الظاهر، إلى معنى آخر غير ظاهر فيه، مع احتمال له بدليل يعضده.
فلا بد للتأويل من دليل يقتضيه؛ لأن الأصل
عدمه، والواجب هو العمل بالظاهر[76].
أما تعريف ابن الحاجب فهو مثيل لتعريف
الشوكاني-رحمة الله عليهما- حمل الظاهر على المحتمل المرجوح. وإن أردت الصحيح-
زدت: بدليل يصيره راجحا[77].
فبقوله: «الظاهر» احترز عن حمل النص على
معناه، وحمل المشترك على أحد معنييه؛ فإنه لا يسمى تأويلا.
وبقوله «المحتمل» احترز عن حمل الظاهر على
معنى غير محتمل.
وبقوله: «المرجوح» احترز عن حمل الظاهر
على معناه الراجح.
وهذا التعريف يشمل التأويل الصحيح
والفاسد.
وإن أردت تعريف التأويل
الصحيح- زدت على ما ذكر، قولك: بدليل يصيره راجحا.
فقوله: «بدليل»- والمراد به مطلق الدليل
الشامل للقطعي والظني- احتراز عن التأويل بغير دليل فإنه لا يسمى تأويلا صحيحا.
وقوله: «يصيره راجحا» أي يصير الطرف
المرجوح راجحا على مدلوله الظاهر، احتراز عن التأويل بدليل لا يصير طرف المرجوح
راجحا، فإنه لا يسمى تأويلا صحيحا[78].
ومن الملاحظ أن هناك من علماء الأصول من
عرف التأويل وأطلق التعريف كابن الحاجب والشوكاني والجويني وابن تيمية وأبي
زهرة-رحمهم الله- بالقول: "حمل اللفظ الظاهر إلى معنى آخر يحتمله..."،
فهذا التعريف للتأويل على عمومه يشمل التأويل الصحيح والفاسد.
ومنهم من قيد التعريف وحصره في التأويل
الصحيح فقط، كالغزالي والآمدي والزحيلي –رحمهم الله- بالقول: "حمل اللفظ
الظاهر إلى معنى آخر يحتمله بدليل يعضده"، وهذا التعريف خاص في التأويل
الصحيح لأنه مقيد بالدليل، ولكن الكل متفق على أن الأصل هو الأخذ بظاهر النص وعدم
الالتفات إلى معنى آخر، إلا إذا وجد دليل يقتضي إرادة معنى آخر للنص.
لذا
فإن ابن حزم –رحمه الله- يقول: "الواجب أن لا يُحَال نص عن ظاهره إلا بنص آخر
صحيح مخبر أنه على غير ظاهره "[79]،
فالأصل العمل بالظاهر، ولا يعمل بخلافه إلا إذا تحققت شروط التأويل.
فالتأويل عند الأصوليين: "هو صرف
اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح يحتمله، لدليل دل عليه"[80].
[1] - سورة آل عمران، الآية: 7.
[2] - موسوعة المصطلح في التراث العربي
الديني والعلمي والأدبي، محمد الكتاني، 1/ 443، دار الثقافة للنشر والتوزيع الدار
البيضاء- المغرب.
[3] - سورة النساء، الآية: 166.
[4] - سورة البقرة، الآية: 255.
[5] - سورة الذاريات، الآية: 47.
[6]- سورة غافر، الآية: 21.
[7] - شرح الأصول الخمسة، لقاضي القضاة
عبد الجبار بن أحمد، ص: 212، حققه وقدم له الدكتور عبد الكريم عثمان، مكتبة وهيبة.
[8] - سورة النساء، الآية: 166.
[9] - سورة الأعراف، الآية: 7.
[10] - سورة البقرة، الآية، 255.
[11] - شرح الأصول الخمسة، ص 212.
[12] - سورة غافر، الآية: 21.
[13] - شرح الأصول الخمسة، ص 212.
[14] - المحيط بالتكليف، للقاضي عبد
الجبار، ص: 180، تحقيق عمر السيد عزمي، المؤسسة المصرية العامة.
[15] - سورة القصص، الآية: 88.
[16] - شرح الأصول الخمسة، ص: 227.
[17] - نفس المصدر، ص: 227.
[18] - مقالات الإسلاميين واختلاف
المصلين، الإمام أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري، ص: 265، تحقيق محمد محيي الدين
عبد الحميد، الجزء الأول، المكتبة العصرية صيدا- بيروت.
[19] -
سورة طه، الآية: 39.
[20] - شرح الأصول الخمسة، ص: 227.
[21] - سورة "ص"، الآية: 75.
[22] - سورة المائدة، الآية: 64.
[23] - شرح الأصول الخمسة، ص: 228.
[24] - نفس المصدر، ص: 228.
[25] - كتاب أصول الدين، الإمام أبي
منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي، ص: 111، دار الفنون التركية
باستانبول، الطبعة الأولى 1346- 1928.
[26] - أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط
الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت
من البلاء، حديث رقم 2519- 2916، 4/ 2235.
[27] - مختصر الصواعق المرسلة على
الجهمية والمعطلة، لابن القيم الجوزية، ص: 24- 25.
[28] - سورة "ص"، الآية: 75.
[29] - مختصر الصواعق المرسلة على
الجهمية والمعطلة، ص: 33.
[30] - مقالات الإسلاميين واختلاف
المصلين، ص: 247.
[31] - كتاب التعريفات للشريف الجرجاني،
ص: 84، مكتبة لبنان ساحة رياض الصلح بيروت، طبعة جديدة 1985.
[32] - مختصر الصواعق المرسلة على
الجهمية والمعطلة، لابن القيم الجوزية، ص: 320.
[33] - منهاج السنة النبوية، لابن
تيمية، 1/309- 310، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.
[34] - نفس المصدر، ص: 311.
[35] - الملل والنحل، للشهرستاني، 1/86-
87، تحقيق الأستاذ عبد العزيز محمد الوكيل.
[36] - تجديد في المذاهب الفلسفية
والكلامية، عاطف العراقي، ص: 175، دار المعارف- القاهرة، 1993.
[37] - الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد
الملة، ابن رشد، ص: 128، مكتبة التربية والطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، 1987.
[38] - الملل والنحل، ص: 97.
[39] - سورة الأنفال، الآية: 17.
[40] - التبصير في الدين وتمييز الفرق
الناجية عن الفرق الهالكة، أبو المظفرات الإسفراييني، ص: 92، تحقيق: محمد زاهد
الكوثري، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1955.
[41] - سورة الطور، الآية: 21.
[42] - الملل والنحل، ص: 97.
[43] - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في
أصول الاعتقاد، الجويني، ص: 237، تحقيق: محمد يوسف موسى علي المنعم عبد الحميد،
مكتبة الخانجي، ط1، القاهرة، 1950.
[44] - تجديد في المذاهب الفلسفية
والكلامية، ص: 182.
[45] - تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام،
أبو ريان محمد علي، 1/317، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية، 1990.
[46] - تجديد في المذاهب الفلسفية
والكلامية، ص: 182.
[47] - الملل والنحل، الشهرستاني، 100.
[48] - التأويل عند النحويين والبلاغيين
والمفسرين القدماء والمحدثين، كاظم فاخر حاجم، ص: 218، مجلة دراسات البصرة، السنة
الحادية عشر/ العدد (22) 2016.
[49] - الاقتراح في أصول النحو، جلال
الدين السيوطي، ص: 62، دار البيروتي، الطبعة الثانية 1427- 2006.
[50] - الإغراب في جدل الإعراب ولمع
الأدلة في أصول النحو، لابن الأنباري، ص: 49، دار الفكر، الطبعة الثانية: بيروت
1391ه- 1971م.
[51] - شعر مزاحم العقيلي، ص: 105، تحقيق
نورى حمودى القبسي.
[52] - معاني القرآن، للفراء، 1/ 242، تحقيق:
أحمد يوسف نجاتي- محمد علي النجار، القاهرة مطبعة دار الكتب المصرية 1374ه- 1955م.
[53] - سورة القمر، الآية: 49.
[54] - سورة النساء، الآية: 59.
[55] - الجنى الداني في حروف المعاني،
الحسين بن قاسم المرادي، ص: 252- 253، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، الطبعة
الأولى 1413ه- 1992م.
[56] - أصول النحو، تمام حسان، ص: 138.
[57] - التأويل عند النحويين والبلاغيين
والمفسرين القدماء والمحدثين، كاظم فاخر حاجم، ص: 219- 220.
[58] - نشأة التفسير في الكتب المقدسة
والقرآن، السيد أحمد خليل، ص: 68- 69، الوكالة الشرقية للثقافة بالإسكندرية،
الطبعة الأولى 1373ه- 1954م.
[59] - حيوات العرب- دراسة لتاريخ
القومية العربية، عبد المحسن عاطف سلام، ص: 554، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
1978.
[60] - دلائل الإعجاز، عبد القاهر
الجرجاني، ص: 66، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر.
[61] - ظاهرة التأويل وصلتها باللغة،
السيد أحمد عبد الغفار، ص: 9- 10، كلية الآداب – جامعة الإسكندرية، دار المعرفة
الجامعية- الإسكندرية.
[62] - دلائل الإعجاز، ص: 66.
[63] - نفس المصدر، ص: 41.
[64] - سورة الإسراء، الآية: 110.
[65] - دلائل الإعجاز، ص: 243.
[66] - ظاهرة التأويل وصلتها باللغة، ص:
98.
[67] - التأويل عند المفسرين من السلف،
الطاهر بن عاشور، ص: 101.
[68] - المستصفى من علم الأصول،
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، 2/61، تحقيق: محمد تامر، دار الحديث القاهرة، سنة
الطبع: 1432ه- 2011م.
[69] - الإحكام في أصول الأحكام، سيف
الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي،
3/49- 50، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان.
[70] - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من
علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، 1/754، دار الفضيلة، الطبعة الأولى 1421ه-
2000م.
[71] - نفس المصدر، ص: 754.
[72] - مجموع الفتاوى ابن تيمة، 3/30، تحقيق:
مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية
بيروت- لبنان، الطبعة الثانية 2005م- 1426ه.
[73] - البرهان في أصول الفقه، أبو
المعالي الجويني، 1/193، المحقق: صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية بيروت-
لبنان، الطبعة الأولى 1418ه- 1997م.
[74] - أصول الفقه، محمد أبو زهرة، ص:
135، دار الفكر العربي.
[75] - المناهج الأصولية في الاجتهاد
بالرأي في التشريع الإسلامي، فتحي
الدريني، ص: 157، مؤسسة الرسالة، الطبعة الجديدة.
[76] - أصول الفقه الإسلامي، وهبة
الزحيلي، 1/303، دار الفكر – دمشق، الطبعة الأولى 1986م.
[77] - بيان المختصر شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب في أصول الفقه،
لأبي الثناء شمس الدين الأصفهاني، 2/415، تحقيق: محمد مظهر بقا.
[78] - نفسه، ص: 416- 417.
[79] - النبذ في أصول الفقه الظاهري،
الامام الحافظ علي بن أحمد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، ص: 39، الطبعة الأولى 2010م- 1431ه.
[80] - تفسير النصوص في الفقه الإسلامي،
محمد أديب صالح، 1/366، الطبعة الرابعة 1413ه- 1993م.