قبل أن أتحدث عن هذه التحديات الداخلية أقف على بعض أسباب التي أدت إلى
ظهور هذه التحديات وإلى تراجع المسلمين وتأخرهم. ولعل من بين هذه الأسباب
"العلم الناقص، الذي هو أشد خطرا من الجهل فأما أصحاب العلم الناقص فهو لا
يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلائكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف
مجنون، أقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلاؤكم بشبه عالم، ومن أعظم أسباب تأخر
المسلمين فساد الأخلاق؛ بفقد الفضائل التي حث عليها القران الكريم والعزائم التي
حمل عليها سلف هذه الأمة وبها أدركوا ما أدركوه من الفلاح، والأخلاق في تكوين
الأمم فوق المعارف، وأيضا من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقدهم كل
ثقة بأنفسهم، وهو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا
الداء على الإنسان إلا أودي به، وقد أجمع الأطباء في الأمراض البدنية أن القوة
المعنوية هي رأس الأدوية، وأن أعظم عوامل الشفاء إرادة الشفاء"[1].
قال أبو الحسن الندوي: "أمران لا يحدد لهما وقت بدقة، النوم في حياة الفرد،
والانحطاط في حياة الأمة، فلا يشعر بهما إلا إذا غلبا واستوليا"[2].
ويقول مصطفى محمود: "ويسأل السائلون دائما عن سر تخلف المسلمين، وسبب كونهم في
الذيل من دول العالم، ولماذا هم أكثر الدول تأخرا وضعفا رغم كثرتهم وامتلاء
خزائنهم؟ فأقول "لأنهم فهموا إسلامهم فهما خاطئا، فهموا الإسلام على أنه
تواكل واعتزال وزهد وخضوع وخنوع. و المسلمون أكثر الناس تلاوة لكتابهم ولكنهم
قعدوا دائما، وفي حالة سكون لا يتقدمون. يقرأون كتابهم الكريم بعيون الموتى فلا
تطلق فيهم الآيات الكريمات قوة دافعة للحركة والعمل والبحث والاختراع"[3].
وفي نفس سياق يقول الدكتور يوسف القرضاوي "إن حال الأمة الإسلامية الآن
وتخلفها في مجالات الحياة هو نتيجة لما وقع للمسلمين في الأعصر الأخيرة حين أساءوا
فهم الإسلام وأساءوا تطبيقه، فأخذوا منه جانبا ونسوا جوانب، فقد اهتموا ببعض
الجوانب العبادية، وبعض الجوانب الشكلية، وأما الجوانب العلمية والاجتماعية
والاقتصادية...وغيرها من الأمور التي تتعلق بكيان الأمة فقد أهملت"[4].
وخلاصة القول أن الأسباب التي أدت إلى
ظهور هذه التحديات كثيرة، وقد اقتصرت على ذكر البعض منها باعتبارها من أهم الأسباب
لهذه التحديات الداخلية.
والتغلب على التحديات الداخلية يعد المدخل الطبيعي للتغلب على التحديات
الخارجية، فترتيب البيت من الداخل يعني أن تكون له الأولوية، فضلا عن أنه من ناحية
أخرى مرتبط بشكل وثيق بتحديات الخارج، بمعنى أنه إذا تعافى العالم الاسلامي من
أمراضه الداخلية وتغلب على تحديات الداخل فإنه يكون حينئذ في وضع يؤهله للتغلب على
التحديات الخارجية. وفيما يلي سأقتصر على ذكر البعض منها.
§
الفهم الخاطئ للإسلام:
"إن الإسلام دين
الاعتدال والوسطية، يكره التطرف والغلو في الدين ويدعوا إلى التيسير على الناس
والرحمة بهم، ورغم تعاليم الإسلام الواضحة في هذا الشأن إلا أن هناك إتجاهات تفسر
الإسلام على هواها، وتريد أن تشده ناحية اليمين أو ناحية اليسار بتفسيرات خاطئة
تجعل منه إما دينا جامدا منغلقا متقوقعا لا يقوى على مسايرة الزمن ولايراعي
متغيرات الحياة.
وبذلك يشدونه إلى فهمهم السقيم و يضيقون رحمة الله الواسعة، وإما أن يجعل
منه فريق آخر دينا دمويا عدوانيا متعطشا لسفك الدماء. وكلا اتجاهين لا مكان له من
الحقيقة ولا يعبر إلا عن الرؤى المريضة لكلا الفريقين.
فالإسلام إذ يرفض الجمود
والانغلاق والتقوقع، فإنه من ناحية أخرى يرفض رفضا قاطعا كل شكل من أشكال العنف أو
العدوان أو القتل والتخريب ويسمي القرآن ذلك بأنه إفساد في الأرض يعاقب مرتكبوه
بأشد العقاب في الدنيا ثم بعد ذلك في الآخرة"[5]:
" أن يقتلوا أويصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك
لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم."[6].
والفهم الخاطئ للإسلام يرجع إما إلى جهل أصحابه بجوهر تعاليم الدين كما هو الحال
لدى الفريق الأول، أو خداع الجماهير برفع الشعارات الدينية لتحقيق أغراض الدنيوية
كما هو الحال لدى الفريق الثاني. والأمر يحتاج إلى كشف زيف هذه التفسيرات الباطلة
في كلتا الحالتين، وإبراز قيم الإسلام السمعة التي تخص على الرحمة والتراحم والعدل
حتى مع الأعداء. وربما يكون الفريق الأول حسن النية في مقابل سوء النية الفريق
الثاني، ولكن حسن النية قد يؤدي إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها فالصديق الجاهل قد
يكون أشد خطرا – دون أن يدري – من العدو العاقل، على الأقل أن العدو يسفر عن
عدواته، وبالتالي يمكن أخذ الحذر منه والإستعداد لمواجهته، أما الصديق الجاهل
المحسوب على الإسلام والذي يبدي أشد الحرص على حمايته بأسلوبه المتخلف فإنه بذلك
يمثل عقبة في طريق التقدم. ولا يستطيع أن يفهم ما يدور حوله من تطورات، فضلا عن
عدم فهمه لجوهر الإسلام وروحه بوصفه دينا حضاريا إنسانيا بكل معنى الكلمة. وحتى
يستطيع الإسلام أن يتجه بخطى ثابتة وحثيثة نحو المستقبل فلابد لأتباعه من التخلص
من هذا المرض المزدوج، وذلك عن طريق الفهم المستنير للإسلام وتعاليمه، والكشف عن
الوجه الحضاري لهذا الدين الذي تتواقف تعاليمه مع كل زمان ومكان، وبيان قدرته على
التطور ومواجهة تغيرات الحياة، وقدرته الذاتية على الصمود أمام كل التحديات،
وتاريخ الاسلام شاهد على ذلك. وعندما يتضح لجماهير المسلمين أن الاسلام بريء من
جهل أصدقائه ومن شذوذ من يدعون أنهم يقتلون دفاعا عنه فإن ذلك يمكن أن يمهد السبيل
للتغلب على الصعاب وعلى التحديات الأخرى الخارجية التي تتخذ من الفهم الخاطئ
للإسلام من جانب هذين الفريقين ذريعة لوصم الاسلام بكل الرذائل[7].
§
تخلف الأمة الإسلامية و تراجعها الحضاري.
"يعد التخلف – الذي يسود المجتمعات الإسلامية – أخطر التحديات
الداخلية التي تواجه العالم الاسلامي. و هذا التخلف ليس تخلفا على المستوى المادي
فحسب، وإنما هو تخلف شامل لشتى النواحي العلمية والفكرية والأخلاقية والإقتصادية
والإجتماعية والسياسية. ولا يغرن أحدا تلك القشرة الحضارية الظاهرية في عالمنا الاسلامي.
فالمسلمون اليوم للأسف الشديد – ليسوا أكثر من مستهلكين لمنجزات الحضارة المعاصرة
وليسوا منتجين لها أومشاركين فيها. صحيح أن أسلافنا قد تركوا لنا رصيدا ضخما لا
زلنا نعتز به ونفخر، ولكننا وقفنا عند هذا الحد ولم نبذل أي جهد حقيقي يضيف جديدا
إلى ما ورثناه عن آباءنا وأجدادنا ورحم الله جمال الدين الأفغاني الذي قال ذات مرة
"إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا
ترون كيف كان آباؤكم رجالا، ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا
مفاخر آبائكم إلا أن تفعلوا فعلهم"[8].
"فالتخلف ينسحب على المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
والثقافية والدينية، ويمكن إرجاع ذلك إلى حد كبير إلى انتشار الأمية في العالم
الإسلامي والتي تبلغ –في المتوسط – طبقا لتقارير المنظمة الإسلامية للتربية
والعلوم و الثقافة (الإيسيسكوا) 46%- ومن شأن ذلك انخفاض مستوى
الوعي لدى المواطنين على جميع المستويات – ويلاحظ أن نسبة الأمية لدى النساء أعلى
بكثير من نسبتها لدى الرجال. وكل ذلك يعوق ويؤخر جهود التنمية الشاملة والتي ينبغي
أن تتضافر في دفعها كل القوى البشرية في العالم الإسلامي حتى يمكن أن تؤتي ثمارها
المرجوة. وفي الوقت الذي ننشغل فيه بمحو الأمية الأبجدية تنشغل الدول المتقدمة
بمحو الأمية التكنولوجية لدى مواطنيها. وهذا يبين لنا الفارق الكبير بين مستوى
التقدم في تلك البلاد ومستواه في العالم الاسلامي. وانخفاض مستوى الوعي يجلب معه
التعصب والتطرف في الفكر وفي السلوك ومن السهل أن يؤدي ذلك إلى الإرهاب. وهذه فرصة
تغتنمها بعض الجماعات المتطرفة في عالمنا الإسلامي حيث يتم تغييب العقل وترويج سوق الخرفات والأوهام
في المجتمعات وما يجره ذلك من عواقب وخيمة"[9].
"والإسلام يعتبر التخلف جريمة لأنه يناقض الأساس الذي قام عليه والغاية التي
يدعوا لها...ولأن هذا التخلف ينعكس بالضرورة على رسالة الاسلامية. يقول في ذلك شيخ
محمد الغزالي: " إن المسلمين عجزوا عجزا في شؤون الحياة عجزا شائنا، وظهر هذا
العجز شللا في رسالتهم وركودا في دعوتهم، ولا غزو فإنه يستحيل أن تنجح رسالة ليس
لأهلها تمكين في الأرض"[10].
§
تشرذم الأمة الاسلامية و تفرقها.
أما التشرذم في عالمنا الاسلامي "فإنه يمكن أن يعد نتيجة طبيعة للتخلف
كما أنه يعبر من جانب آخرعن تحكم روح الأنانية والفردية والإنعزالية. وكل ذلك يجعل
بلاد العالم الإسلامي (التي تبلغ ستا وخمسين دولة) لقمة سائغة في فم الآخرين ممن
لا يريدون خيرا للأمة الإسلامية وليس للمؤسسات الإسلامية مثل منظمة المؤتمر
الإسلامي التي تنطوي تحت لوائها دول العالم الاسلامي – أي فاعلية أو دور مؤتمر
تقوم به، فالضعف السياسي ظاهرة بادية
الأمة الاسلامية. ومن هنا فإن القضايا المصيرية التي تتعلق بأمور المسلمين يقررها
في الغالب الآخرون ويغيب عنها المسلمون أو يتم تغيبهم عنها"[11].
يقول الدكتور محمد علي " من المهم جدا لدعاة
"التقريب" أن يدرسوا العلل والأسباب العميقة لحالة التفرقة الإجتماعية
وبدون هذه الدراسة لا يمكن وضع خطة صحيحة ومنهج عملي فاعل لوحدة الأمة.
وهذا الاختلاف في الرؤى يدل على عدم وحدة المنهج وعدم وجود منهجية واحدة يدل بدوره
على عدم فهم الأسباب الحقيقية لحالة التمزق القائمة، ولو ألقينا نظرة على عالمنا
الإسلامي عامة، وعلى كل واحد من أقطار لرأينا في كل فصائله حالة الانشقاق والنزاع،
فلا يخلوا اتجاه سياسي أو ديني أو اجتماعي أو أدبي أو فكري من ظاهرة الانشقاق
والتنازع والتناحر إلى حد الإسقاط، نحن إذن أمام "ظاهرة مرضية" لا يقتصر
وجودها على الساحة الدينية، بل تشمل كل توجهاتنا الفكرية والعملية، ولابد من
التعمق فيها بجد، كي تبذل الجهود نحو معالجتها، وتصان الطاقات المخلصة المتجهة إلى
الوحدة من الهدر والضياع. ولا أدعي في مقالي هذا أنني أقدم أسباب حالة التشرذم
المرضية في عالمنا الإسلامي، بل أريد أن أفتح الباب أمام كل المخلصين ليفكروا بجد
ولكي يكتفوا بالوعظ والإرشاد ورفع شعارات الوحدة وإقامة الندوات والمؤتمرات للحوار
في هذا المجال لأن هذه وحدها لا يمكن أن تعالج المشكلة، إلا إذا اعتقدنا أن سبب
هذه الحالة المرضية يعود إلي الجهل، عندئذ سيكون تنوير الأذهان بالخطب والدراسات
علاجا لهذه الحالة. ولكن الواقع يشهد وجود هذه الحالة المرضية بين العلماء
والمفكرين والمثقفين والقيادات أكثر مما يجدها بين القواعد وعامة الناس، مما يدل
على أن الجهل وحده ليس هو العامل، بل ثمة عامل أعمق. وفي القران الكريم نصوص تدل
على أن التفرق لا يحدث دائما بسبب غموض المفاهيم والجهل بها، بل قد تكون التفرقة
مقرونة بالبينة: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا
مِنْ بَعْدِمَا جَاءَهُمْ البَيِّانَاتُ"[12]
"وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُولُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِمَا
جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ"[13]
ثم يوضح القرآن سبب التفرقة بين من جاءهم العلم فيقول: "وَمَا تَفَرَّقُوا
إِلاَّ مِنْ بَعْدِمَا جَاءَهُمُ اَلعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمُ"[14].
فالبغي إذن هو السبب وليس الجهل والبغي: هو الظلم والفساد وأصله مجاوزة الحد،
ودافعه دون شك الذاتية الطاغية التي تتحول إلى مثل أعلى يعيده الفرد من دون أي مثل
أعلى آخر، ويقول في آية أخرى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا}[15]، فعدم الاعتصام بحبل الله هو سبب التفرق. وهذا الاعتصام يعني التزام
بالمثل الاعلى المطلق الحق وحده، دون سائر المثل العليا الزائفة المؤدية إلى
التفرقة"[16].
خلاصة القول أن التحديات الداخلية التي
تواجه الأمة الاسلامية في عالم اليوم كثيرة ومتعددة، واقتصرت على ذكر البعض منها،
ومن بين هذه التحديات الداخلية الفهم الخاطئ للإسلام" لما يترتب عليه من
عواقب وخيمة لا يقتصر أثرها على الأوضاع في عالمنا الإسلامي فحسب، وإنما تتعدى هذا
الإطار لتمتد إلى خارج العالم الإسلامي، ومن التحديات الداخلية أيضا
"التخلف" الذي ينسحب على المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية
والثقافية والدينية، ويمكن إرجاع ذلك إلى حد كبير إلى إنتشار الأمية في العالم
الثالث، ومن التحديات الداخلية كذلك "التشرذم"، مما جعل البلاد لقمة
سائغة في فم الآخرين ممن لا يريدون خيرا للأمة الإسلامية، وهذا الأخير يعد نتيجة
طبيعية للتخلف.
[7] -هموم الأمة الاسلامية لمحمود حمدي زقزوق، ص 30-40.
www.azarshab/comإحياء الإسلام
أولا لمحمد علي آذ رشب - [16]
إرسال تعليق