أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

التأويل في الألفاظ غير واضحة الدلالة

 


التأويل في الألفاظ غير واضحة الدلالة


 

      يعتري بعض الألفاظ الغموض أو الإبهام في دلالته على معناه، غير أن منشأ هذا الخفاء قد يكون من ذات الصيغة، وقد لا يكون من الصيغة نفسها؛ لأنها بينة الدلالة على معناها، أو حكمها، بل من تطبيق النص على بعض أفراده أو وقائعه.

      فاللفظ غير واضح الدلالة من النصوص: هو ما لا يدل على المراد منه بنفس صيغته، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي[1].

      لقد قسم الأحناف الألفاظ غير الواضحة إلى أربع مراتب من حيث قوة الخفاء مبتدئين بالتقسيم تصاعدياً وهي: - الخفي- المشكل- المجمل- المتشابه.

      ولكن الباحث لا يجد هذا التصنيف عند المتكلمين من علماء أصول الفقه، فهم لم يعرضوا إلا للمجمل والمتشابه، وهما جماع المبهم من الألفاظ عندهم.

      وسأتطرق بعون الله إلى تقسيمات الأحناف مع ما يلائم كل قسم من نماذج تطبيقية.  

§       التأويل في الخفي

      الخفي لغة: الخاء والفاء والياء أصلان متباينان متضادّان: فالأول الستر، والثاني الإظهار.

       فالأول خفي الشيء يخفي، وأخفيته، وهو في خفية وخفاء، إذا سترته، ويقال للرجل المستتر مستخفٍ. قال تعالى: «إِنَّ اَلسَاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا»[2]. أي أظهرها[3].

      الخفي اصطلاحاً: وهو ما خفي مراده بعارض غير الصيغة لا ينال إلا بالطلب. أي إن معناه ظاهر من لفظه، ولكن وجد سبب عارض أدى إلى خفاء مراد المتكلم في بعض أفراده، يحتاج إدراكه إلى نظر وتأمل.

      وهو أدنى مراتب الخفاء، ويقابل (الظاهر) الذي هو أول مراتب الظهور

      والظاهر: ما ظهر المراد به باللفظ نفسه، والخفي: ما خفي المراد به من غير صيغته.

      وقد اعتبر الخفاء في تعريف الخفي من غير اللفظ نفسه ليقابل الظاهر؛ لأن الخفاء في اللفظ فوق الخفاء بعارض، فلو كان الخفي: ما يكون خفاؤه باللفظ نفسه، لم يكن في أول مراتب الخفاء، فلم يكن مقابلاً للظاهر[4].

      مثال الخفي:

       أ- لفظ "السارق" في قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»[5] فإنه ظاهر في معناه: وهو كل من يأخذ مال الغير خفية من حرز مثله، لكن دلالة على بعض أفراده فيها شيء من الخفاء والغموض، مثل الطرار: وهو النشال الذي يأخذ المال من صاحبه في غفلة منه بخفة يد ومهارة، ومثل النباش: وهو سارق أكفان الموتى من القبور.

      وقد نظر العلماء في الموضوع، فوجدوا أن الطرار سارق وزيادة؛ لأن السارق يسارق الأعين النائمة، والطرار يسارق الأعين المتيقظة، لهذا اتفقوا على أن الطرار ينطبق عليه حكم السارق، فتقطع يده بل هو أولى بالقطع[6].

       أما النباش فقد اختلفوا في تطبيق الحد عليه من عدمه، وسبب اختلافهم يتجلى في "القبر": هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش، أو ليس بحرز؟

       - قال مالك والشافعي وأحمد: هو حرز، وعلى النباش القطع؛ وبه قال عمر بن عبد العزيز

       - وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، وكذلك قال سفيان الثوري وروى ذلك عن زيد بن ثابت. 

       والحرز عند مالك بالجملة: هو كل شيء جرت العادة بحفظ ذلك الشيء المسروق فيه، فمرابط الدواب عنده أحراز، وكذلك الأوعية وما على الإنسان من اللباس، فالإنسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده وإذا توسد النائم شيئاً فهو له حرز، ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحُلي أو غيره، إلا أن يكون معه حافظ  يحفظه وعليه فكل من سُمي مُخرجاً للشيء من حرزه، وجب عليه القطع عند مالك[7].

       أما الأحناف: قالوا: أن النباش لا ينطبق عليه اسم السارق لأن القبر لا يعد حرزاً لما فيه، ولأن الكفن ليس مالا مرغوباً فيه عادة، فنظراً لنقصان معنى السرقة فيه، بسبب عدم الحرز وقصور المالية، لا تقطع يده عندهم وإنما يعزر.

       فالأحناف إذن لا يقطع عندهم النباش لوجهين:

       أحدهما: عدم السرقة.

       الثاني: عدم الحرز.

      "أما عدم السرقة، فإنما تكون السرقة عند تحديق أعين النظار الحفاظ وتصويبها نحو المحفوظِ والكفن لا عين فيه تحفظه ولا تلحظه، وأما عدم الحرز فظاهر لأنه لم تجعل التراب عليه ليرجع إليه.

       ورد عليهم المالكية: أما تحقيق السرقة فيه لاشك موجودة، هو من جملة السرقِة، ولكنه يختص باسم النباش اشتق له هذا الاسم من فعلهِ، وأما قولهم إنه ليس هنالك عين تحفظه وتلحظه، فليس ذلك من شروط السرقِة، بدليل أن البلد إذا شغر أهله في يوم عيد أو لحادث فسرق سَارق من المنزل حينئذٍ وجب عليه القطع إجماعاً وليس هناك حافظ ولا بصر لاحظ"[8].

       ب- ومن أمثلة الخفي أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم "ليس لقاتل ميراث"[9]  فإن لفظ "القاتل" واضح الدلالة على معناه، وهو الذي يباشر القتل عمداً وعدواناً، أي: دون وجه حق، فمن قتل مورثه على هذا الوجه حرم من الميراث إجماعاً.

       لكن اختلف في تطبيق هذا النص على القاتل خطأ، أو القاتل بالتحريض أو بالنسب، هل يعتبر كل منهم قاتلاً ينطبق عليه مفهوم النص.

      فالخفاء إذن ليس ناشئاً من لفظ "القاتل" لأن دلالته واضحة، وإنما نشأ الخفاء عند تطبيق النص على صور أخرى من القتل[10].

      فالحنفية يذهبون إلى أن مباشرة القتل عمداً أو خطأ، هي الجريمة المانعة من الإرث؛ لأن القتل إنما يعني مباشرته، دون اعتبار للقصد، أما القتل بالتسبب، أو بالتحريض أو بالمعاونة، فكل أولئك  لا يعتبر جريمة مانعة من الإرث، لانعدام المباشرة، فلا تدخل في مفهوم القتل المانع من الإرث. غير أن مباشرة القتل عمداً ولكن بوجه شرعي، لا تعتبر عندهم من موانع الإرث كالقصاص، والدفاع الشرعي عن النفس، على الرغم من تحقق المباشرة.

      أما المالكية فيعتبرون "العمد" هو أساس الجريمة، سواء أكان القتل مباشرة أم تسبباً و بدون وجه حق، فإذا تحققت هذه الأركان كنا بصدد جريمة مانعة من الإرث، وانطبق عليها النص وحكمه. وتأسيساً على هذا النظر، لا يعتبر القتل الخطأ مانعاً من الإرث في رأيهم، سواء أكان الخطأ في القصد أم الخطأ في الفعل[11].

      ورأى الجمهور أن القاتل خطأ كالعامد يحرم من الميراث؛ لأنه قصر في حالة تستدعي منه الاحتياط والحذر، سداً للباب أمام المجرمين الذين يستعجلون الإرث، ويدعون القتل خطأ[12].

       حكم الخفي:

       لا يطبق النص على الأفراد الذين اشتبه في دخولهم في مدلوله العام، حتى يُسفر الاجتهاد عن تحقق معنى اللفظ فيه، فينطبق الحكم حينئذ عليه، وإن لم يتحقق فيه معناه، فلا يدخل في مفهومه، وبالتالي لا يطبق عليه حكمه[13].

§      التأويل في المشكل

    المشكل لغة: من شَكَل فهو مُشكل يقال: تَشَكل الأمر: التبس. والشكل: الشبه، والمثل[14].

       ويقال: أمر مُشْكِل، كما يقال: أمر مُشتَبِه، أي هذا شابَهَ هذا، وهذا دخل في شِكل هذا[15].

     المشكل اصطلاحاً: هو ما خفيت دلالته على المعنى المراد منه خفاءً ناشئاً من ذات الصيغة أو الأسلوب، ولا يدرك إلا بالتأمل والاجتهاد.

       فالإشكال إذن  غموض ناشئ من اللفظ أو الأسلوب ذاته، إذ لا يدل بذاته على المعنى المراد منه، ولهذا لا يمكن تطبيقه أو العمل به إلا بعد الاجتهاد القائم على الأدلة من النصوص أو القرائن الخارجية أو حكمة التشريع التي ترجح المعنى المراد في غالب ظن المجتهد.

       لذا كان "المشكل" أشد غموضاً من الخفي؛ إذ الخفي -كما علمنا – لفظ واضح الدلالة على معناه، غير أن الخفاء إنما نشأ من تطبيقه على وقائع ذات أسماء وصفات أخرى، فالخفاء إذن لهذا العارض الخارج عن الصيغة نفسها، أما المشكل فإن فالخفاء  منشؤه اللفظ نفسه أو الأسلوب[16].

       ومما اعتبر من المشكل قوله تعالى: « أَوْ يَعْفُوَ اَلذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكَاحِ » من الآية الواردة في شأن المطلقات قبل الدخول، ذوات المهر المسمى: وهي قوله سبحانه: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمُ إِلَّا أَنْ يَّعْفُونَ، أَوْ يَعْفُوَ اَلذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكَاحِ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَلَا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمُ، إِنَّ اَللَّهَ بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ»[17].

      هل المراد به الزوج أو الولي؟

      وبالتأمل والاجتهاد رأى الجمهور غير المالكية، وكثير من الصحابة والتابعين أن المراد به هو الزوج (أي الزوجة أو الزوج) لأن العفو لا يتصور إلا ممن له حق التنازل عن المهر لغيره، فإن كانت المرأة أهلا للعفو بنفسها أو بوليها عفت ولم تأخذ شيئاً من المهر، وإن عفا الزوج كان للمرأة المهر كاملاً فيما إذا حدث الطلاق قبل الدخول، ويصبح تأويل الآية: إلا أن تعفو المرأة عن حقها، أو يعفو الزوج عن حقه وهو نصف المهر، فيكون المهر كله للمرأة.

      ورأى المالكية أن المراد به هو الولي، وتكون المرأة هي التي تعفو وإن كانت أهلاً للتصرف، بأن لم تكن صغيرة أو محجوراً عليها، فإن لم تكن أهلا للتصرف أسقطه وليها، وتُقيد كلمة «يَعْفُونَ» بقيد: إن كن أهلاً لذلك، وما بعد «يَعْفُونَ» يكون الولي هو المراد[18]. 

      مثال آخر: قال تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ اَلذِينَ يُحَارِبُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الاَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُّقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الاَرْضِ»[19].

       اختلف العلماء في أن كلمة " أو" للتخيير أو للتوزيع، وقد وضعت في اللغة لكل معنى منهما على سبيل الحقيقة، في حالات مختلفة.

       فالآية تنص على عقوبة معينة متفاوتة هي: "القتل – الصلب- قطع الأيدي والأرجل – النفي" وهي عقوبات مقررة لجرائم العصابات وقطاع الطرق.

       اختلف الفقهاء في هذه العقوبات، هل هي موزعة على قدر الجرائم، بحيث أنها تقرر لكل جريمة عقوبتها، وتتفاوت العقوبة بتفاوت الجريمة نفسها خفةً وخطورة. وهذا على أساس أن كلمة     " أو" للتوزيع أو التنويع.

       فالإمام ليس مخيراً، بل هو مُقيد في إقامة الحد "العقوبة" حسب نوع الجريمة ومدى خطورتها.

       وذهب آخرون إلى أن الإمام مخير في الحكم بأية عقوبة وتنفيذها على من شاء، دون النظر إلى نوع الجريمة، عملاً بمقتضى معنى التخيير الذي تفيده كلمة " أو".

       فليست العقوبة على قدر الجريمة، بل الإمام مخير في توقيع أغلط العقوبة على أخف الجرائم المذكورة. 

       وحجة الأولين أن مبدأ العدل في العقاب في الشريعة قائم على أساس "المماثلة في الجزاء". قال تعالى: «وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا»[20]. فالمماثلة في الجزاء قررت بنصوص صريحة قاطعة، وفي جريمة القتل، فرض القصاص، قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي اَلْقَتْلَى»[21] والقصاص هو المماثلة في الجزاء، وعلى هذا فإن حمل المعنى على التنويع هو الذي يتفق مع مبادئ الشريعة في العدالة، والقول بغير ذلك خروج على مبدأ العدل في العقاب.

       والقول بالتنوع هو رأي جمهور العلماء[22].

       حكم المشكل: هو وجوب البحث والتأمل في المعنى المراد من اللفظ المشكل، ثم العمل بما تبين المراد منه، بالقرائن والأدلة[23].

§      التأويل في المتشابه

       المتشابه لغة: شِبْهٌ وَشَبَهٌ لغتان بمعنى. يُقال: هذا شِبْهُهُ أي شَبِيهُهُ وبينهما شَبَهٌ. وَالشُّبْهَةُ: الالتباس. وَالْمُشْتَبِهَاتُ من الأمور المشكلات. وَالْمُتَشَابِهَاتُ: الْمُتَمَاثِلاَتُ. وَالتَّشْبِيهُ: التمثيل.

وَأَشْبَهَ فلاناً وَشَابَهَهُ وَاشْتَبَهَ عليه الشيء[24].

       المتشابه في اصطلاح الأصوليين: هو اللفظ الذي خُفي معناه المراد منه من ذات اللفظ، خفاء لا يسع العقل البشري إدراكه في الدنيا، لعدم وجود قرينة تدل عليه، ولم يصدر من الشارع الحكيم بيان له، أو لا يدركه إلا الراسخون في العلم[25].

       أما الشاطبي فالمتشابه عنده ما يقابل المحكم، فهو لفظ غَيْرُ بَيِّنٍ قد ينحسم فيه باب التوصل إلى المراد إن كان حقيقيا، وقد يحتاج في بيان المراد به إلى غيره إن كان إضافيا وقد يحتاج إلى تحرير محل الحكم وتعيين تعلق تنزيله إن كان مناطياً، فهو بهذا الاعتبار أنواع ثلاثة:

       - أحدهما: حقيقي: وهو الذي لم ينصب لنا الشارع دليلا على معرفته فانسدت أبواب التوصل إلى بيانه، فهو متشابه من حيث وضع في الشريعة كذلك وهذا لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به.

       - والثاني: إضافي: وهو ما احتاج في بيانه إلى غيره، ولا يتعين المراد منه إلا بعد التأمل في الأدلة،

ولا يقال إن الاشتباه ينسب إليها، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقعها.

       -وأما الثالث: فهو التشابه العائد على النظر في المناط فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل الذكية كذلك، فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر وهو أيضا واضح لا تشابه فيه.

       إذا ثبت هذا فقد يقع تساؤل حول القدر الواقع من المتشابه في الشرعيات، ومذهب الشاطبي أن الحاصل منه قليل نادر واستدل عليه بأمور ثلاثة[26]:

       - أحدهما: نص نقلي مستفاد من قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»[27].

       - والثاني: إن القول بكثرة المتشابه فيها يؤدي إلى شيوع الالتباس والإشكال وعند ذلك     لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى كقوله تعالى: «هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ»[28].

       - والثالث: الاستقراء لأنه بتتبع موارد الأدلة ومواقع الأحكام يتبين جريانها على نهج مستقيم بين المحجة واضح المعالم "فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى: «كِتَابٌ أَحْكِمَتَ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»[29]

       ومما انبنى على مذهبه في بحث المتشابه:

       أ- اعتماده فيما انحسمت فيه أوجه البيان مبدأ التسليم والإيمان بما هو محجوب علمه عن العباد "كالاستواء والنزول... وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن .

       ب- ومما انبنى على ذلك أيضا: ذهابه إلى أن التشابه لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية لأن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه وهذا باطل.

       ت- ومنه أيضا تحرز الإمام الشاطبي من إجراء التأويل على المتشابه الحقيقي وتجويزه في الإضافي، لأن التأويل لا يعتد به إلا إذا تعضد بدليل، وقد مر أن المتشابه الحقيقي هو ما تعذر فيه  ما يسعف على معرفة المراد منه[30].

       أما إذا كان من قبيل الإضافي، فالتأويل لازم له إذا تعين بدليل "كما بين العام والخاص والمطلق والمقيد والضروري والحاجي وما أشبه ذلك لأن مجموعها هو المحكم.

       مما سبق يتبين لنا اتساع نظرة الإمام الشاطبي للمتشابه فقد نهج منهجاً أصولياً مسلماً به عند أكثر الأصوليين ويظهر هذا في طريقة بسطه القول في النوع الأخير من خفي الدلالة وهو المتشابه[31].

       ومثاله: الأحرف المقطعة في أوائل السور، مثل قوله تعالى: «آلم» «حم عسق» «كهيعص» ومثل صفات الله التي توهم المشابهة للخلق، والله تعالى منزه عن الحدوث والتشبيه، مثل (اليد) في قوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»[32] و (العين) في قوله تعالى: «وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا»[33] وقوله: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»[34] ومثل الأفعال التي تصدر عن الله تعالى موهمة التجسيم والجهة، مثل قوله تعالى: «الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»[35] وقوله: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا»[36].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقموا ليلها، وصوموا يومها، فإن الله تبارك وتعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفرَ له؟ ألا من مسترزق فأرزُقَه؟ ألا من مبتلًى فأعافيه، ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر"[37].

      حكم المتشابه:

       هناك طريقتان عند علماء الكلام والتوحيد لمعرفة حكم المتشابه، وهما طريقة السلف، وطريقة الخلف.

       فطريقة السلف وهي طريقة عامة أهل السنة والجماعة من علماء سمرقند ومنهج الأصوليين: هي الامتناع عن التأويل، مع الاعتقاد بحقية المراد الإلهي أو النبوي، والتسليم بما يريده الشارع منه، وترك الطلب والاشتغال بالوقوف على المراد منه. ودليلهم قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا»[38]. فالحكم الأصولي: هو التوقف مع اعتقاد الحقية، وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى بدون بحث في تأويله، أي إن لله مثلاً يداً وعيناً لا كالأيدي والأعين البشرية، من غير تشبيه        ولا تعطيل، فلله المثل الأعلى.

       وطريقة الخلف وهي طريقة المعتزلة: تأويل المتشابه بما يوافق اللغة، ويلائم تنزه الله عما لا يليق به؛ لأنه تعالى لا يد له ولا عين له ولاعين ولا مكان، فكان الظاهر مستحيلاً، والتأويل والصرف عن هذا الظاهر واجباً، فيراد به معنى يحتمله، ولو بطريق المجاز، فيكون المراد باليد في قوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ»[39] القدرة، ويراد بالوجه في قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»[40] الذات، ويراد بالاستواء في آية «الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»[41] الاستيلاء على وجه التمكن.

       ومنشأ الخلاف: هو اختلافهم بالوقف على كلمة «اللَّهُ» أو عطف «وَالرَّاسِخُونَ» عليها، فمن قال بالوقف على قوله: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ»[42] رأى أن المتشابه لا يعلم تأويله غير الله، وأن الراسخين في العلم يفوضون علمه إلى ربهم، ويؤمنون به من غير بحث ولا تأويل.

       وأما من عطف: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»[43] على لفظ الجلالة، وجعل الوقف عليها، قال: إن الراسخين في العلم يقدرون على تأويله بإرادة معنى يحتمله اللفظ، ويتفق مع تنزيه سبحانه عن مشابهة خلقه.

       ورأينا ترجيح طريقة السلف، والقول بالتسليم والتفويض لله بمراده، علماً بأنه لا يترتب على الخلاف نتيجة عملية، ولا صلة لهذا البحث بالأحكام الشرعية وبعلم الأصول، وإنما هو من فلسفات علماء الكلام[44].   

 



[1] - الوجيز في أصول الفقه، وهبة الزحيلي، ص: 182.

[2] - سورة طه، الآية: 15.

[3] - معجم المقاييس في اللغة، ص: 324.

[4] - أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، ص: 324.

[5] - سورة المائدة، الآية: 38.

[6] - أصول الفقه الإسلامي، ص: 325.

[7] - بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي، ص: 452- 453.

[8] - كتاب القبس لابن العربي المعافري، 1/1026- 1027، دراسة وتحقيق: عبد الله ولد كريم، دار الغرب الإسلامي بيروت- لبنان.

[9] - أخرجه ابن ماجه: 2646، وأحمد: 347، من حديث عمر، وهو حديث حسن لغيره. (نيل الأوطار): (6/81).

[10] - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، فتحي الدريني، ص: 74، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1434ه- 2013م.

[11] - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، فتحي الدريني، ص: 75.

[12] - أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، ص: 325- 326.

[13] - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ص: 78.

[14] - القاموس المحيط، محمد بن يعقوب بن السراج الفيروز آبادي، 3/ 831.

[15] - معجم المقاييس في اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ص: 204.

[16] - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ص: 79.

[17] - سورة البقرة، الآية: 235.

[18] - أصول الفقه الإسلامي، ص: 327- 328.

[19] - سورة المائدة، الآية: 33.

[20] - سورة الشورى، الآية: 40.

[21] - سورة البقرة، الأية: 178.

[22] - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ص: 83- 84.

[23] - أصول الفقه الإسلامي، ص: 328.

[24] - مختار الصحاح، الإمام محمد بن أبي بكر الرازي، ص: 220.

[25] - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ص: 124.

[26] - منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي، عبد الحميد العلمي، ص: 259.

[27] - سورة آل عمران، الآية: 7.

[28] - سورة آل عمران، الآية: 138.

[29] - سورة هود، الآية: 1.

[30] - منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي، عبد الحميد العلمي، ص: 260- 261.

[31] - نفس المصدر، ص: 262.

[32] - سورة الفتح، الآية: 10.

[33] - سورة هود، الآية: 37.

[34] - سورة طه، الآية: 39.

[35] - سورة طه، الآية: 5.

[36] - سورة الفجر، الآية: 22.

[37] - رواه ابن ماجه عن علي رضي الله عنه.

[38] - سورة آل عمران، الآية:  7.

[39] - سورة الفتح، الآية: 10.

[40] - سورة القصص، الآية: 88.

[41] - سورة طه، الآية: 5.

[42] - سورة آل عمران، الآية: 7.

[43] - سورة آل عمران، الآية: 7.

[44] - أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، ص: 331- 332.

تعليقات