في سياق العمل الذي يقوم به
العلواني لإصلاح الفكر الإسلامي، فقد عمل على بناء تصور متكامل لتشخيص الأزمة و من
تم الوقوف على مكمن الخلل والعمل على تقديم الحلول اللازمة.، و
أول هذه الحلول و منطلقها:
منطلق التغيير :بحيث أن التغيير الاجتماعي بالدرجة الأولى هو شأن جماعي
فمهما يكن دور الفرد فيه فإنه يبقى مرتبطا بالأقوام و الجماعات :“إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ "[1]وقوله
أيضا “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
"[2]
ومنه أيضا“ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ"[3].
وتغيير الجماعات لا يكون إلا
بتغيير الأفراد وذلك بالانطلاق من الذات بأن يتحمل كل فرد مسؤوليته من الموقع الذي
يشغله في المجتمع صغيرا كان أم كبيرا، و في هذا السياق نورد قوله عليه أزكى الصلاة
و السلام: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"[4] ففي أمر التغيير لكل موقعه الذي يسهم من خلاله في بناء الأمة و
تقوية دعائمها، و هذا ما يترتب عنه المسؤولية الفردية في الجزاء والثواب والعقاب
الأخروي :“وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا "[5].
و من هنا نخلص إلى أن التغيير
نواته الفرد ونتائجه تحصلها الجماعة و الأمة ككل، و هذا ما مثل له العلواني حيث
قال : وفي نتائج التغيير إيجابا أو سلبا وشمولها للجماعة والأمة حتى لو
قام بها أفراد فقط يأتي حديث السفينة مثل
القائم في حدود الله و الواقع فيها كمثل قوم إستهموا على سفينة،
فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو
أن خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن
أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا "[6]
فمن هنا يمكن أن نقول أن الإنسان هو منطلق
التغيير والحامل لأمانة الله تعالى، المكلف بمسؤوليته، والصائغ لمفهومه، وذلك بكل
خصائص هذا المستخلف وعناصر تكوينه، وعقله وروحه وجسمه وبصفاته العقلية والنفسية
والجسمية.
للتغيير هدف سام ،
فالإنسان هو الذي بيده أن يغير الباطل إلى الحق، فلقد كرمه الله تعالى وميزه عن
باقي المخلوقات، وحمله أمانته واستخلفه في الأرض بهدف إعمارها على أساس إحقاق الحق،
فهو المطالب بممارسته لهذا العمل دون المخلوقات الأخرى، فهو لم يخلق عبثا ولا سدى
ودليل هذا قوله تعالى : "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ"[7].
وبالإضافة لذلك يرفع العلواني نداءه و يصدع
بضرورة أسلمة المعرفة باعتبارها منهجا معرفيا محدد المعالم واضح
القسمات وتبنيه بديلا للمادية و الوضعية المتجاهلة لله والغيب من ناحية، كما يمثل
بديلا عن اللاهوتية والكهنوتية المستلبة للإنسان والطبيعة من ناحية أخرى[8]،
فبالوعي بها نستطيع أن نقرر أن قواعد الإنتاج المعرفي ينبغي أن تدرس على دعائم
أساسية تكمن في :
-
إعادة بناء الرؤية
الإسلامية [9]:
القائمة على مقومات و خصائص التصور الإسلامي السليم[10]،
و ذلك باتخاذ القرآن الكريم و السنة النبوية منطلقا لذلك و مصدرا على أساسه تبنى
المعرفة الإنسانية في كل تجلياتها و أبعادها العلمية و الاجتماعية و السياسية و
المنهجية ....الخ.
-
إعادة فحص وتشكيل وبناء
قواعد منهجية إسلامية : كما قال الدكتورالعلواني :
"إعادة فحص وتشكيل وبناء قواعد منهجية إسلامية على ضوء "المنهجية
المعرفية القرآنية" وعلى هدى منها، فإن أضرارا بالغة قد أصابت هذه المنهجية
نتيجة القراءات المفردة والتجريدية، التي قرأت القرآن وقرأت الوجود والإنسان في
معزل عنه قديما و حديثا".[11]
و للسير على منهجية
إسلامية سليمة وجب الجمع بين قراءة الوحي والوجود الإنساني قراءة واحدة متكاملة
لكي يتحقق المنهج الرباني الذي ارتضاه الله عز و جل لخلقه و أنزله على رسوله
الكريم عليه أزكى الصلاة و السلام ليكون دستور حياة لا كلمات تتلى بمعزل عن الحياة
.
-
إعادة دراسة تراثنا
الإسلامي وفهمه: وقراءته قراءة نقدية تحليلية معرفية، تخرجنا من الدوائر
الثلاث التي تحكم أساليب تعاملنا مع تراثنا في الوقت الحاضر: دائرة الرفض المطلق ودائرة القبول المطلق، ودائرة التلفيق الانتقائي
العشوائي.[12]
وهذه الدوائر الثلاث
تعتبر من أجلى التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، و التي جعلته يتخبط و
يتيه في متاهات استنزفت لعقود طويلة جهود الأمة و طاقاتها مما كان من باب الأولى
أن تسخر في البناء الحضاري للأمة و تجديد فكرها.
إن هذه الخطوات و الدعائم و
الحلول التي أطلق عليها قواعد إسلامية المعرفة أو المنهج التوحيدي، تعمل على
استرجاع العلم من المذهبيات التي فصمت بين الوحي والكون وتطهير هذا العلم وإعادة
توظيفه بالجمع بين مصادر المعرفة الإنسانية الحقة.
o القيم
العليا سبيل إصلاح الفكر الإسلامي
ولقد أرسى الدكتور طه جابر العلواني
ركائز الإصلاح بتحديده دعائم القيم العليا الحاكمة التي أصلها و عينها في حدود ما
يصل إليه المرء عند استقرائه وتحليله لكتاب الله تعالى من الدفة إلى الدفة، و
تتجلى أهمية هذه القيم العليا في كونها المحاور الأساسية التي تدور حولها ألفاظ الوحي و معانيه ومن تم
فهي مدار الوجود الإنساني التي على أساسها ينتظم الوجود الإنساني الأمر الذي ينعكس
على الكون بأكمله.وقد حصرها في ثلاث قيم عليا هي كالآتي:
-
القيمة العليا
الأولى ((التوحيد)) :حق الله تعالى على عباده أن يؤمنوا بواحديته ووحدانيته،
وتفرده بصفاته وأفعاله[13].
فهذه القيمة العليا هي مدار الوحي بأكمله و منطلق الرسالات السماوية من أولها إلى
آخرها، "فالتوحيد أساس الدين كله فما من تكليف عقدي أو شرعي إلا انبثق عنه
واستند إليه".[14]فالتوحيد يعد إقرارا
واعترافا بوحدانية الله تعالى النابعة عن اليقين بوحدانيته عز وجل.
-
القيمة العليا الثانية
((التزكية)) :وهي تزكية الإنسان لنفسه والتحلي بالطهارة الشاملة، فهي
المؤهل الأساسي والشامل الذي يجعل الإنسان قادرا و أهلا لحمل الرسالة و تبليغها و
الوفاء بها على الوجه الذي يرتضيه الله عز وجل لاستحقاق مرتبة الاستخلاف و أداء
التكاليف المترتبة عنها قال تعالى : "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"[15].
قال الدكتور
العلواني : فالله تبارك وتعالى يعلم أن هذا الإنسان قابل بفطرته وخلقه على أن
يقوم بعملية "التزكية" لنفسه أو التدسية لها والانحراف بها والإنسان
الذي لا يتحلى "بالتزكية" ولا يكتسب هذه الصفة، لا يصلح للوفاء بالأمانة"إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا جَهُولًا[16]"[17].
-
القيمة العليا
الثالثة :((العمران)) :وهي المهمة التي من خلالها يتجلى لنا مدى التنزيل الفعلي
للمنهج الرباني في الواقع الإنساني فمتى تم اتباع منهج الله عز و جل نتج عنه
التوازن و الاتزان في كل مناحي الوجود الإنساني و في الكون بأسره فيكون بذلك العمران الذي استخلف الله عز و جل
الإنسان في هذه الأرض لتحقيقه، قال الدكتور العلواني : "العمران" هو مقصود العبادة الحقيقية للأمة العابدة أو جزء
مهم منها[18]،
وقال أيضا : وبناء العمران هو انعكاس للهداية والتزكية وروح العبادة على الكون
و الطبيعة المسخرة.[19]
_ثم تأتي
عمليَّة((بناء الأمَّة))[20]، لأنَّ هذه المقاصد العليا
الحاكمة لا يستطيع تحقيقها على الوجه المطلوب والقيام بها وحسن أدائها إلا أمَّة
متضافرة متآخية متضامنة، تحمل هذا العبء باعتبارها أمَّة قال فيها المولى عز وجل :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ..﴾(البقرة:143)،﴿كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ..﴾(آل عمران:110).
_ ثم
يأتي عنصر((الدعوة))[21]:
لأنَّ الرسالة الخاتمة رسالة عالميَّة، فهي جماع رسالات الرسل، وما أنزل عليهم،
جاءت والناس صنفان، صنف كافر بالله، أو مشرك، وصنف أهل كتاب غيروا
وبدلوا وحرفوا، فكان لابد من تصحيح ما فعلوا بتصديق الكتاب الخاتم وهيمنته وإعادة
الطهر والنقاء والصفاء والصدق والصحة إلى تلك الكتب والصحف المنزلة، ليكون الدين
لله، ويظهر على كل ما أضافه البشر وزادوه، أو حرفوه مما زعموا أنَّه دين، من أديان
وضعيَّة افتعلها من افتعلها، ووضعها من وضعها، للصد عن سبيل الله، و بهذا يكون من
واجب هذه الأمة الدعوة إلى هذه القيم، والمقاصد، ليظهر دين الله على الدين كله،
وينتظم الوجود الإنساني وفقا لما أراده الله عز وجل رضي من رضي و كره من كره، يقول
تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ﴾(الصف:9).
هذه القيم العليا الحاكمة هي الإطار الناظم
للمنهج الإصلاحي الذي سطره المفكر الإسلامي المصلح و المجدد الدكتور طه جابر
العلواني والتي لا بد من اعتبارها واعتمادها لبنة من لبنات البناء و التجديد للصرح
الحضاري الإسلامي اللائق بخير أمة أخرجت للناس، في اتجاه إيصالها للعالم أجمع
باعتبار الرسالة الخاتمة للناس كافة ليسطع نور الحق و تغمر رحمة الخالق البشرية
جمعاء لقوله عز و جل" وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلَّا رَحْمَةًۭ
لِّلْعَـٰلَمِينَ ".
[2]
- سورة ا لأنفال 53:.
[3]
- سورة محمد 38:.
[4] - حديث
كلكم راع حديث صحيح أخرجها لشيخان . البخاري و مسلم عن ابن
عمر مرفوعا على ما في كشف الخطأ (2/169 ) وكذلك احمد و أبو داود
و الترمذي-
على ما في الفتح الكبير (2/331
) نقلا عن كتاب الأزمة الفكرية ..مرجع سابق.ص :7.
[6] -الأزمة الفكرية
المعاصرة و مناهج التغيير للدكتور طه جابر العلواني ص :8.
[7] - المؤمنون 115.
[8]
-إصلاح الفكر الإسلامي مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر،. مدخل إلى
نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر. طه جابر العلواني.
دار الهادي.
الطبعة الأولى.1421/2001. ص:
116
[9]
- نفس المرجع.ص :116. و كتاب الجمع بين القراءتين.قراءة الوحي وقراءة الكون . طه جابر العلواني.الطبعة الأولى يناير2006.1428/
مكتبة الشروق الدولية.. ص 59:.
[10]
- إصلاح الفكر الإسلامي مدخل إلى نظام الخطاب . ص 116:.
[11] - نفس
المرجع السابق. ص :117.
الجمع بين القراءتين . ص 60:.
[12]
- إصلاح الفكر الإسلامي مدخل إى نظام الخطاب . ص
121:.
[13] - الجمع
بين القراءتين . (مرجع سابق)،ص:
67.
[14]
- التوحيد و التزكية و العمران، محاولات في الكشف عن القيم و المقاصد القرآنية
الحاكمة.
طه جابر العلواني. دار الهادي.الطبعة الأولى.1424/2003م . ص 13:.
[15]-
سورة الأنبياء:105.
[16]-الأحزاب :72.
[17]-أفلا يتدبرون القران ص 124:.
[18] أفلا
يتدبرون القران لطه جابر العلواني. ص :128.
[19]- الجمع بين القراءتين .
( مرجع سابق)،ص :38.
[20] _ موقع الدكتور طه جابر
العلواني"مقال بعنوان المقاصد القرانية العليا الحاكمة".
[21] _موقع الدكتور طه جابر
العلواني"مقال بعنوان المقاصد القرانية العليا الحاكمة"