§
أسس وحدة الأمة الاسلامية
في هذا المقال سأركز إن شاء
الله تعالى على أسس الوحدة الإسلامية؛ لأنها دعائم وأركان الوحدة الاسلامية
المنشودة، والتي بدورها تحقق للمسلمين نهضتهم ورقيهم وتقدمهم في كافة المجالات
المختلفة، وفيما يلي سألقي الضوء على بعض هذه الأسس.
1- وحدة العقيدة :" فالمسلمون
جميعا لهم إله واحد ليس كمثله شيء والناس
كلهم خلق الله تعالى وأفضلهم أتقاهم ولا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، ومن رضي
بالله ربا وبمحمد رسول الله نبيا كان من هذه الأمة، ومن لم يرض فليس منها.
2- وحدة الشعائر التعبدية: العبادة
التي فرضت على المسلمين جميعا واحدة يطالب كل فرد رجلا كان أو امرأة والعبادات
الإسلامية تزيد وحدة الأمة الإسلامية قوة ومتانة وصلابة، إن وحدة الأمة تتجلى في
وحدة العبادة والإتجاه والقبلة والصوم شهر محدد في العام ولقاء المسلمين في الحج
كل عام، لباسهم واحد، أعمالهم واحدة وهتافهم واحد تجعل المسلم ينصهر تلقائيا في
بوتقة الأمة الإسلامية الواحدة.
3- وحدة المصادر التشريعية: قال المرحوم سعيد حوى: إن منابع الدستور والقانون للأمة الاسلامية هي
القران والسنة، ولا يجوز أن يكون للمسلمين قانون يخالف شرع الله، فعلى هذا يكون
للمسلمين قانون جنائي واحد، وقانون معاملات واحد وقانون الأحوال الشخصية واحد،
وقانون دولي واحد. فوحدة القانون والكتاب تجمع الشمل، وتوحد الصف إن هم إعتصموا
بحبل الله، قال الله تعالى "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا"[1].
ووحدة الدستور تقيهم من الزلل والضلالة والشتات إن هم تمسكوا بالكتاب والسنة، وفي
الحديث الشريف: (ولن يكونوا مؤمنين حقا إلا إذا احتكموا إلى الكتاب والسنة) وقال
الله تعالى "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءِ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَهِ وَاليَوْمِ الاَخَرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"[2].
4-وحدة اللغة والتاريخ
المشترك: القران الكريم روح اللغة العربية وأساسها وبفضل القران الكريم
كانت اللغة العربية لغة الدين والعلم، والقرآن لا يسمى قرآنا إلا بهما والإسلام لا
يمكن فهمه حق الفهم إلا بتعلم اللغة العربية الفصحى، يقول ابن تميمية رحمه الله
تعالى: إن اللغة العربية للإسلام ليست لغة فحسب ولكنهما عقل وخلف ودين ولا يتمكن
من معرفة الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية إلا من كان عالما بلغة العرب و
أساليبها وكل مايتعلق بها.
واللغة وسيلة لا غاية، وهي وسيلة حيوية لتوحيد الفكر ونشر الثقافة، وكلما
ازدادت معرفة المسلم بلغة القرآن كان أقدر على فهم الاسلام، والقول إن اللغة
العربية هي لغة الإسلام والقرآن، لا يعني إثارة عصبية، بل المسألة أن تعلم اللغة
العربية فخر لمن تعلمها. ويقول الإمام الشافعي: إن الله تعالى فرض على جميع الأمم
تعلم اللسان العربي بالتبع لمخاطبتهم به في القران للتعبد له، ويقول فقهاء
الحنفية: العربية فضل على سائر الألسن وهي لسان أهل الجنة من تعلمها أو علمها فهو
مأجور، وهكذا نتبين أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للأمة الإسلامية، وعامل
اللغة له أثره العظيم في التقريب بين شعوب أمتنا الإسلامية المحتاجة بإلحاح إلى كل
ما يدعم توجهها نحو الوحدة الكبرى، والقوة والمنعة حتى ترتقي من جديد إلى المكانة
السامية التي أعدها الله تعالى لها، وتعليم الشعوب المسلمة التي تتحدث لغات غير
عربية، اللسان العربي، أمر على درجة كبيرة من الأهمية، ذلك لأنه يحقق أشياء كثيرة
تعود بالنفع على الأمة ومنها التعريف بلغة رسالة الإسلام، التي هي الرسالة
العالمية ومنها تفويت الفرصة على العدو الذي يهدف إلى تحطيم كيان الأمة وهدم
وتخريب مجتمعاتها.
أما بالنسبة لتاريخ الأمة
الاسلامية فهو تاريخ لكل مسلم أينما وجد ومن أي جنس كان، وتاريخ الأمة تاريخ
الأنبياء عليه الصلاة والسلام قال تعالى{إِنَّ
هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أُمَّةَ وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمُ فَاعْبُدُونَ.}"[3].
وتاريخ هذه الأمة الواحدة منطلق من الإيمان والعقيدة، وبدأ مع الكتب السماوية
والنبوات، وفي الكل منطلق واحد، وقرآننا العظيم قد استعرض لنا تاريخ الأمة الواحدة
من لدن آدم إلى سيدنا محمد صلوات الله عليهم أجمعين. يقول الدكتور محمد أسود:
" إن الله سبحانه جعل أهل الإسلام أمة واحدة على عقيدة واحدة، وأمرهم باتباع
ذلك منذ آدم تعالى إلى نوح تعالى وسائر الأنبياء إلى سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم، وحيث ما وجد في الأرض، فالله تعالى ذكر أحوال الأنبياء السابقين مع أممهم في
سورة الأنبياء؛ ثم قال الله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةَ وَاحِدَةً
وَاَنَا رَبُّكُمْ فَاعُبْدُونِ}[4]
وفي سورة المؤمنون خاطب الرسل جميعا فقال:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْلَمُونَ عَلِيمْ. وَأَنَّ
هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةُ وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[5].
ولن تجد في الدنيا كلها أيها المسلم تاريخا أعرق من هذا التاريخ؛ ولا أشمل ولا
أصدق ولا أعدل، وهذا هو التاريخ الذي يجمعنا ويوحدنا، والتاريخ الإسلامي علمنا أن
المسلمين الأوائل عندما توحدت شوكتهم في دولة قوية إنطلقت من المدينة النبوية بعد
الهجرة واستمرت في نظام الخلافة بمراحله المختلفة؛ إستطاعوا بقوة الرابطة الدينية
التي وحدت بينهم، أن يسيطروا على العالم شرقه وغربه، وأن يرفعوا راية لا إله إلا
الله خفاقة في أنحاء المعمورة، فبنوا بذلك أقوى بناء للوحدة عرفته البشرية حتى
اليوم، كذلك علمنا التاريخ في نفس الوقت أن المسلمين عندما ضعفت في نفوسهم تلك
الرابطة الإسلامية التي كانت توحدهم، تعرضوا للإنقسامات والفتن مما مكن أعداءهم من
السيطرة عليهم وعلى ديارهم"[6].
5- وحدة الهدف والمصير: "أمة الإسلام كالجسد
الواحد، ومشاعر وأفكار الأمة الإسلامية واحدة وكلها تنبع من الكتاب والسنة، وعقيدة
الأمة الإسلامية واحدة، فأمال أحباب الله وأوليائه من عبيده وخلقه والآمهم تجعلهم
أمة واحدة، يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه يفرح
الواحد منهم لفرح أخيه ويحزن إذا حزن، ويشاركه الإحساس في السراء والضراء، يحبه في
الله ولله بلا غرض شخصي، وبكل صفاء سريرة، فالآمال والآلام والمفاهيم النيرة
والمشاعر الخيرة، جعلت من المسلمين أمة متماسكة عبر العصور الوحدة والإزدهار، وصنعت
للعقيدة الواحدة والأمة الواحدة، جيشا واحدا يقاتل في سبيل غاية واحدة هي إعلاء
كلمة الله الواحد الأحد، قال الله تعالى "إِنَّ اَللهَ يُحِبُّ الذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفَّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانُ مَرْصُوصُ"[7].
وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى: "المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه تداعى
له سائر الجسد بالحمى والسهر".
6- وحدة السلوك
الاجتماعي: أمة القران أمة وهي كالجسد الواحد، وحياة شعوب الأمة الإسلامية
واحدة، سلوكهم واحد، فالعادات الجاهلية والتقاليد البالية، لا مكان لها في سلوكية
المجتمع الإسلامي، فالسلوك الإسلامي سلوك متميز واضح المعالم والأهداف والغابات،
ويمتاز عن بقية السلوكيات الأرضية لأنه المنشأ والمصدر، ويوحي أوحي للنبي الأعظم
محمد صلى الله عليه وسلم، ومصبوغ بصيغة إله عليم حكيم عزيز قدير " صِبْغَةَ
الَلهِ وَمَنَ أَحْسَنَ مِنَ الَلهِ صِبْغَةَ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ"،
وعند النظر والتدقيق في كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام،
نجد أن قواعد وأسس أحكام السلوك الاسلامي، الخاص والعام بارزة سواء في ذلك السلوك
بين المسلم وبين أهله وأرحامه وجيرانه وخدمه، والسلوك بين المسلم وبين عامة الناس
من المسلمين وغير المسلمين، ومن عصاة و مطعين ومن مسالمين ومحاربين، والسلوك بين
الزوج والزوجة والأولاد، ولذلك فلا غرو أن نجد سلوك الملتزمين بالكتاب والسنة
موحدا، فهذه الوحدة في سلوكيات و أخلاق وآداب أمة القرآن لا توجد في دولة من دول
العالم، وليس لدى اي أمة مثل هذه الوحدة في العادات والتقاليد والسلوك والأخلاق،
فالإسلام العظيم وحد سلوك أبنائه جميعا، يأكلون ويشربون وينامون على هيئة واحدة،
وأسلوب حياتهم واحد، فالمسلم من أي لون أو عرق أو جنس كان، لا يشعر بالغربة بين
إخوانه المنتشرين في أصقاع المعمورة"[8].
وخلاصة القول إن هذه الأسس وغيرها قامت
الوحدة الإسلامية التي أساسها العقيدة والتقوى، وهذه الأخيرة من أهم مقومات النهوض
الحضاري لأن هذه الأمة تمتلك جميع مقومات الوحدة، فدينها واحد، ولغتها واحدة،
ومنهجها واحد، وقبلتها واحدة، ورسالتها واحدة، وبفضل القرآن تكون الوحدة وتبقى،
وبغيره تذهب وتزول، وما لم تكن وحدة المسلمين على هذه الأسس الراسخة فهي وحدة
محكوم عليها بالفشل.
7-وحدة التحديات والعقبات:
تواجه أمة الإسلام
تحديات مشتركة منها، التحدي
الصهيوني حيث يعمل الصهاينة على التمكين لمشروعهم العدواني الذي
يعمل على تحقيق شعار "حدودك
يا إسرائيل من الفرات إلى النيل". والتحدي الصليبي التنصيري ذلك
إن انتصارات الفاتحين المسلمين الأوائل دفعت الصليبين إلى الإنتقام من أمة
الإسلام، فكانت حملات التنصير التي إستهدفت الأمة المسلمة قاطبة. بالإضافة إلى تحدي التخلف الذي
تعيش الأمة في مجموعها على وقعه في جميع الأصعدة السياسي، والثقافي، والإقتصادي، والعلمي
والتكنولوجي..........، ومما يكرس هذا التحدي وجود عوامل الطرد والتهجير لأدمغة
المسلمين، ويقابلها عوامل الجذب في البلاد الأجنبية. ناهيك عن تحدي العولمة التي
تعمل العولمة على فرض نظم وأنماط معينة على الأمة في جميع المستويات: السياسية،
الثقافية، الاقتصادية والاجتماعية لإحكام القبضة على مقدرات الأمة ومواردها.
§
الأبعاد المختلفة لوحدة الأمة الاسلامية.
تميزت وحدة الأمة الاسلامية
بأبعاد مختلفة وفيما يأتي عرض لبعض هذه الأبعاد.
1-البعد الديني: "يمثل البعد الديني أهم
عناصر وحدة الأمة الاسلامية، فالدين هو الركيزة الأساسية التي تنبني عليها بقية
العناصر، فوحدة الأمة تمثل بناء متكاملا له أساس ثابت في الأرض هو الذي يحمل
البناء كله، أو هي كالشجرة لها جذور ضاربة في الأرض وبدونها لا يكون للشجرة كيان
ولا حتى وجود،ومن هذه الجدور يمتد الساق والفرع والأغصان.
ويعبر القرآن الكريم عن هذا البعد الديني بقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ الَلهِ جَمِيعًا}[9].
وهذه الوحدة الروحية من شأنها أن تقضي على كل ما يعكر صفوف وحدة الأمة أو يعمل
على تقطيع أوصالها؛ فمادام الرب واحدا والدين واحد والقرآن فلا مجال للتناقض في
أمور الدين.
2-البعد الإنساني: ويتضح البعد الإنساني
لوحدة الأمة الإسلامية جليا في القران الكريم والسنة النبوية المطهرة، فالله
سبحانه وتعالى يلفت نظرنا إلى وحدة الأصل الإنساني. فالناس جميعا قد خلقهم الله من
نفس واحدة :"يَا أَيُّهَا النًّاسَ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسِ وَاحِدَةِ"[10].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى أيضا في قوله:{يَا أَيُّهَا
النّاسُ، أَلاَ إِنِّي رَبُّكُمُ وَاحِدْ وَابَاكُمُ وَاحِدْ، ألَالاَ فَضْلَ
ِلعَرَبِيٍ عَلَى أًعْجَمِي وَلاَ لْعَجَمِي عَلَى عَرَبِي، وَلَا لِأَحْمَرَ
عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى}[11].
وهنا الإرتباط الوثيق بين كل من البعد الديني والبعد الإنساني في وحدة الأمة
الإسلامية له دلالة مهمة، إذ يعني أن هذه الأمة التي أراد الله لها أن تكون خير
أمة أخرجت للناس من شأنها أن تكون عنصر أمان واستقرار في هذا العالم؛ فهي أمة
ترتبط بخالقها بعلاقة العبودية له سبحانه وترتبط بغيرها من بني البشر بعلاقة
الإنسانية التي لا تنسى عبوديتها بخالق الكون كله.
3-البعد الاجتماعي: إذا كانت الأمة
الإسلامية ترتبط فيما بينها بروابط العقيدة والإنسانية فإن محصلة هذين البعدين هي
الأخوة هي أقوى من أخوة النسب، ومن هنا كان قول القرآن الكريم:{إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةُ}[12].
وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤسس قواعد المجتمع الإسلامي في المدينة
بعد الهجرة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فتآلفت قلوبهم بفضل الله، وقد
امتن الله على المؤمنين بهذا التآلف فقال: "فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا"[13].
وهذه الأخوة لها حقها فهي تتضمن بعدا عاطفيا يتمثل في المشاركة الوجدانية. فكل فرد
من أفراد الأمة الاسلامية يشعر بآلام وآمال لأنه جزء منها يحس بإحساسها ويسعد
لسعادتها ويتألم لألمها. ومن هنا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد
الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[14] ولكن مجرد المشاركة
الوجدانية – مع أهميتها – لا تكفى – ولابد أن يترجم هذا الشعور الداخلي إلى عمل
فعال يكون من شأنه النهوض بالأمة وبأفرادها.
ومن هنا كان مبدأ التكافل في الاسلام بمثابة ترجمة عملية لذلك الشعور
الباطني لدى المسلم. وقد جعل الإسلام هذا المبدأ عبادة مفروضة يتعبد بها المسلم
ويتقرب بها إلى ربه وهي فريضة الزكاة. فالزكاة – إذن – ليست مجرد تبرع يجود به
المسلم أو لا يجود والمناهي حق المال، وهو حق إلزامي واجب الأداء من طييبات ما
كسبنا، وهو حق لايجوز التهاون فيه بأي حال من الأحوال. فالله سبحانه قد استخلف
الإنسان في المال الذي هو المال الله وأمره بالإنفاق منه. وفي ذلك يقول القران
الكريم: "وَأَنْفَقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلْفِينَ فِيهِ"[15].
4-البعد الحضاري: الإسلام ليس دين طقوس
تعبدية جامدة، إنه دين للحياة بكل أبعادها والأمة الاسلامية أمة أراد الله لها أن
تكون صاحبة رسالة دينية و حضارية في هذا العالم، ومن هنا كان وصفها بأنها خير أمة
أخرجت للناس. وقد رسم القرآن الكريم للإنسان الإطار العام في كل أموره الدينية
والدنيوية واستخلف الله الإنسان في الأرض وكلفه بعمارتها وصنع الحضارة فيها، ووعد
المؤمنين العاملين بالتمكين لهم في الأرض وكتب لهم العزة والنصر. وتحقيق ذلك كله
أمر منوط بالإنسان وبتأييد من الله. وقد أدرك المسلمون الأوائل ذلك كله وعملوا على
تحقيقه، وقد تحقق لهم بالفعل ما أرادوا وما أراده الله منهم، وبذلك أقاموا صرحا
شامخا لحضارة كانت من أطول الحضارات عمرا في التاريخ. و قد اشترك علماء الأمة
الإسلامية من كل جنس ولون في إقامة هذا الصرح الحضاري بدافع من الإسلام الذي رفع
من شأن العلم والعلماء واعتبر مداد العلماء مساويا لدماء الشهداء، وجعل العلماء
أخشى الناس لله. وسارت جهود علماء المسلمين في مجالات العلوم الدينية والدنيوية
جنبا إلى جنب في تكامل رائع، فقد أدركوا أن الحضارة تعني تقدما ماديا وروحيا
وأخلاقيا، وبذلك قدموا للإنسانية خدمة كبرى في الوقت الذي كان فيه العالم غير
الإسلامي ما يزال يعيش في جهالة جهلاء. وترك لنا الأسلاف تراثا ضخما يعد أغنى تراث
في العالم يعبر عن وحدة جهود علماء الأمة الإسلامية بصورة رائعة. ويشترك المسلمون
اليوم في كل مكان في العالم الإسلامي في الإعتزاز بهذا التراث.
وقد أن الأوان الأمة الإسلامية أن تتوحد جهودها مرة أخرى في سبيل النهوض
بالأمة والإرتقاء بها حضاريا مما يؤكد شخصيتها المتميزة ويحافظ على ذاتيتها
مسترشدين في ذلك بتعاليم الإسلام الشاملة وبالجوانب الإيجابية المشرقة في تراثنا.
فلا يليق بالأمة الإسلامية أن تظل في عالمنا المعاصر قابعة في مقاعد المتفرجين
الذين لا يشاركون في صنع الحضارة ويكتفون بدور المستهلك لما تنتجه الحضارة التي
يصنعها غيرنا في الوقت الذي لا تعرف البشرية دينا آخر غير الإسلام يشمل على كل
المقومات والأسس التي تحقق للبشرية أفضل المستويات الحضارية ماديا وروحيا
وأخلاقيا. والرسالة الدينية الحضارية المنوطة بالأمة الاسلامية لا يمكن تأديتها
والقيام بحقها إلا إذا توحدت جهود الأمة الإسلامية دينا وفكريا وحضاريا – وواجبها
يفرض عليها في هذا الصدد أن تقدم للعالم هذه الرسالة الدينية الحضارية في صورة
أنموذج متحقق في عالم الواقع. فليس بالأقوال تؤدي الرسالات الكبرى ولكن بترجمة
القوال إلى برامج عمل. ومن هنا كان اللوم والمقت للمؤمنين الذين يقولون ملا
يفعلون: "يَا أَيُّهَا الذِّينَ امَنُوا لِمَ تَقُولٌونَ مَالَا تَفْعَلُونَ2 كَبْرُ مُقْتَا عِنْدَ اللَهِ أَنْ تَقُولُوا
مَا لَا تَفْعَلُونَ3".[16]
وعلى الأمة الإسلامية صاحبة المصير المشترك أن تعيد النظر في قائمة الأولويات
للقضايا والهموم التي تحيط بها في عالمنا المعاصر فتشغل نفسها لا بالقضايا
الهامشية بل بالقضايا المصيرية وعلى رأسها قضية التخلف التي تمثل الهم الأكبر
للأمة الإسلامية اليوم. والتخلف الذي أعنيه يشمل المجالات الروحية والمادية
والأخلاقية والعلمية والحضارية بصفة عامة. و تلك قضية مصيرية لا يجوز التهاون فيها
أو التفريط في معالجتها بما تستحقه من إهتمام وعناية"[17].
ومن هذا أخلص أن للوحدة عدة
أبعاد، واقتصرت على ذكر البعض منها باعتبارها من أهم الأبعاد لهذه الوحدة.
[8] -الوحدة الإسلامية الاطار النظري وخطوات التطبيق أبحاث ووقائع
اللقاء السابع للندوة العالمية للشباب الاسلامية، الطبعة الأولى، ص 275-282.
[14]اخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الأدب ،رح6011،باب
رحمة الناس والبهائم،ج8،ص10.