أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

فلسفة التاريخ - 2-

 

فلسفة التاريخ - 2-


تعريف علم التاريخ

معنى التاريخ في اللغة

       التاريخ في اللغة العربية مشتق من تأريخ، وتوريخ، وهو يعني الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ووقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين والتوقيت وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة وفي الزمان[1].

المعنى الاصطلاحي للتاريخ

       أما المعنى الاصطلاحي للتاريخ فهو شيء غير هذا وذلك. وقد ظهر هذا المعنى وتطور منذ أن ابتدعت لفظية يونانية هي Istoria التي تعود في ظهورها إلى القرنين السادس والخامس قبل الميلاد وقصد بها في البداية  البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة، وهو – كما نلاحظ- معنى عام جدًا فالأشياء الجديرة بالمعرفة متعددة وكثيرة والبحث عنها يمكن أن يكون بمناهج شتى وبطرق متعددة، فأية معرفة هي المقصودة هنا وأي منهج للبحث يمكن اتباعه حتى نصل إلى تلك المعرفة المنشودة؟

       لقد انحصر المعنى العام هذا بمرور الوقت وصارت الكلمة دالة على نوع واحد من المعرفة هو معرفة الأحداث التي وقعت في الماضي ورافقت تطور الأشياء والظواهر المختلفة، وبذلك ولد تعبير «التاريخ» بمفهومه الشائع والذي استخدمه أوائل المؤرخين اليونان من أمثال هيرودوت وثيودكيديدس اللذين قصراه على تتبع الأحداث التاريخية التي صنعها الإنسان في الأزمان الماضية ومحاولة تمحيص هذه الأحداث وروايتها على نحو ما وقعت به فعلاً بقدر الإمكان، وبالطبع فإن رواية هذه الأحداث المهمة قد صاحبه- لديهما ولدى غيرهما من مؤرخي اليونان الكبار- رواية كل المظاهر الحضارية المصاحبة لهذه الأحداث من ديانات ومعتقدات شائعة ومن مظاهر العمارة والفنون السائدة وما إلى ذلك[2].

       وقد تم ذلك في الوقت الذي بدأت فيه نفس الكلمة تتخذ معاني أكثر اتساعًا لدى بعض الفلاسفة، فقد استخدمها أرسطو في عنوان كتابه «تاريخ الحيوان» فأصبح التاريخ ليس فقط تاريخًا للإنسان وإنما يمكن أن يكون هناك تاريخ للحيوان بأنواعه المختلفة وللنبات بأنواعه المختلفة وربما يتسع المعنى أكثر و أكثر ليصبح هناك تاريخ للمعادن وتاريخ لكل مادة أو لكل شيء من الأشياء الطبيعية الأخرى، وقد استخدم نفس المصطلح لديه للدلالة على رواية تاريخ العلوم المختلفة حيث روى في مؤلفاته تاريخ الفلسفة السابق عليه وتاريخ علم الطبيعة وتاريخ علم النفس...، وعلى ذلك فربما يكون معنى التاريخ عند أرسطو هو القص التاريخي لكل ما سبق سواء أكان يتعلق بالأحداث الإنسانية أو الحيوانية أو النباتية أو يتعلق بإنجازات الباحثين السابقين في كل حالات المعرفة الإنسانية[3].

      قد يطول الحديث قليلاً إذا أردنا أن نتعرف على ما يدل عليه مصطلح التاريخ بعكس أصله اللغوي. فقد تعددت الآراء كل من منطلق وزاوية محددة. فقد وردت بعض الآراء التي منها أن التاريخ هو "دراسة للتطور البشري في جميع جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والروحية أياً كانت معالم هذا التطور ومظاهره واتجاهاته"[4].

      وكلمة التاريخ تعني "مجموعة الحوادث التي ظهرت في حياة البشرية كما أنها تعني الالمام بتلك الأحداث".

       وأن كلمة « استوريا Historin»  يونانية الأصل تدل جذورها على معنى الرؤية، حيث أن كلمة «استور Histor» تعني الرؤية والمشاهدة أو الاستقصاء بقصد المعرفة[5].   

      ويذكر البعض أن التاريخ "يشتمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون كله بما يحويه من أجرام وكواكب، ومن بينها الأرض وما يجري على سطحها من حوادث، ومن أمثال هؤلاء المؤرخ الشهير (ه،ج، ويلز) الذي يبدأ كتابه (موجز تاريخ العالم) دراسة نشأة الكون والأرض وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة"[6].

       ويرى البعض الآخر أن كلمة التاريخ "لفظ عربي خالص يعني الأعلام بالوقت، ومن هنا ظهرت كلمات التاريخ والتأريخ والتوريخ، وان كان هناك من يعتقد أن الكلمة؛ كلمة التاريخ- فارسية الأصل، وأن العرب أخذوها عن الفرس، وعلى العموم فإن التاريخ يعني لغويا التوقيت أي تحديد زمن الأحداث وأوقات حدوثها"[7].

       ويذكر البعض كذلك أن التاريخ "وعاء الخبرة البشرية، أو هو العلم الخاص  بالجهود البشرية في الماضي وتستهدف منها جهود المستقبل، فالتاريخ يتناول أمة من الأمم بالتنقيب في طوايا فكرها ومدى ارتباط ذلك الفكر بالدنيا والحياة، ثم اتصاله بمسيرة الإنسان في الأرض وجهوده المتصلة لرفع شأنه اقتصادياً وعلمياً وفكرياً، ومدى ارتباط ماضي الأمم بحاضرها، وحاضرها بمستقبلها"[8]. 

       وبهذا يمكن القول أن التاريخ يعني كل شيء حدث في الماضي، بل هو الماضي نفسه، أو بعبارة أدق       ما نعرفه من هذا الماضي، إذا كان هناك تاريخ للنبات وتاريخ للحيوان، وتاريخ للفن... فإن التاريخ المصطلح عليه هو تاريخ الإنسان الذي هو دراسة لأعمال الإنسان في الماضي وأفكاره ومشاعره ومخلفاته، وبصفة عامة دراسة لتطور المجتمعات البشرية.

هل التاريخ علم؟

      بعد أن استعرضنا معنى التاريخ لنا أنن نتساءل هل التاريخ علم؟ للإجابة على هذا التساؤل نذكر أنه حدث اختلاف حول التاريخ وهل هو علم أم فن أم أدب، فنجد العلامة عبد الرحمن بن خلدون يقول في مقدمته المشهورة: اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفؤاد شريف الغاية... وهو يعني هنا بالفن العلم الانساني، وليس أدل على ذلك من اشاراته إلى العمران البشري وكيف حدث وماهي ديناميات حدوثه.

    ونجد علماء الطبيعيات ينكرون تسمية التاريخ بلفظة علم تأسيسا على أن الأحداث التاريخية لا تخضع للملاحظة والتجربة، كما أن كل حادثة تاريخية- وان كانت مرتبطة بما قبلها ومتصلة بما يليها- إلا أنها تعتبر قائمة بذاتها لا يمكن أن تتكرر، هذا إلى جانب أن الدراسة التاريخية لا توصل إلى تعميمات أو قوانين علمية، بالإضافة إلى أنه لا يمكن التنبؤ بمسار التاريخ في المستقبل.

       ومع ذلك يمكن القول أن التاريخ علم من العلوم الإنسانية حيث يدرس التطور البشري في جميع النواحي، ولذلك لا يمكن أن نشبهه بالعلوم الطبيعية التي تدرس ظاهرة واحدة بيولوجية أو فيزيائية أو رياضية...، بينما يدرس التاريخ كل النشاط الانساني المعاصر ويربطه بجذوره في الماضي[9].

       ورغم ذلك نستطيع القول بأن الدراسات التاريخية تأثرت بالنزعة الطبيعية، حيث انعكس منهج العلم الطبيعي على التاريخ فأصبحت خطوات منهج البحث التاريخي على النحو الآتي:

1- منهج تجريبي استقرائي غير مباشر حيث لا يخضع التاريخ للتجريب.

2- حشد مادة تاريخية فيها حصيلة هائلة من الأحداث التاريخية.

3- حصر الواقعة المراد دراستها زمانا ومكانا حتى يستطيع الباحث أن يستوفيها دراسة.

4- الوصول إلى أحكام كلية تمكن من الاستفادة بها في الحاضر والمستقبل[10].

       وعلم التاريخ "هو ذلك الفرع من المعرفة الإنسانية الذي يستهدف جمع المعلومات عن الماضي وتحقيقها وتسجيلها وتفسيرها، فهو يسجل أحداث الماضي في تسلسلها وتعاقبها، ولكنه لا يقف عند تسجيل هذه الأحداث، وإنما يحاول- عن طريق إبراز الترابط بين هذه الأحداث وتوضيح علاقة السببية بينها- أن يفسر التطور الذي طرأ على حياة الأمم والمجتمعات والحضارات المختلفة، وأن يبين كيف حدث هذا التطور ولماذا حدث"[11].

       إن علم التاريخ إذن يبحث عمومًا في الموجود من مخلفات الماضي وسجلاته التي قد تعين على جلاء الحاضر وتوضيحه. إن علم التاريخ هو مجرد طريقة علمية في البحث. أما موضوعه فيتسع ليشمل جميع المسائل البشرية، فكل ما يقع من الإنسان أو يقع عليه وكل ما يبنيه أو يهدمه داخل في حدود البحث التاريخي[12].

تعريف الفلسفة

      تفلسف فلان: أي تعاط الفلسفة، وأصلها اللغوي كلمة يونانية مكونة من لفظتين فيلسوف: بمعنى محب، وسوفيا: بمعنى الحكمة، ومعناها محب الحكمة.

      لكن من الصعب جدا تحديد مدلول اصطلاحي واحد لها، فقد اختلف معناها بتغير المكان والزمان، كما تباينت التعريفات حسب المذاهب والأفكار.

       ورغم الاختلاف الشديد حول المفهوم من الناحية الاصطلاحية بسبب عدم وجود شرح دقيق ومتفق عليه لدى الباحثين، شأنه في ذلك شأن العديد من المصطلحات الأخرى، فإن الأقدمين كانوا يطلقون لفظة الفلسفة بأعم معانيها على مجموع ثمرات العقل الإنساني، واعتبروها شكلا راقيا من أشكال الوعي، إذ سميت أم العلوم في بداياتها الأولى، لأن مباحثها اقتحمت جميع الميادين المعرفية الأخرى، ثم تطورت مع الزمن كمنهج وأسلوب في البحث.

       ويرى الفيلسوف الوجودي كارل جاسبرز في كتابه "المدخل إلى الفلسفة" بأن التأمل الفلسفي ينبع من صميم الإنسان، ومن حيث هو كذلك فإنه شائع بين الناس صغارا وكبارا، بدائيين ومتحضرين.

       وتبحث الفلسفة في قضايا الميتافيزيقيا والوجود وما وراء الطبيعة، وهي مليئة بالأفكار المختلفة ما بين دينية ومادية ومثالية، وما بين وضعية ووجودية[13].

       إذن "الفلسفة هي حب الحكمة، وهي تأمل عقلي في الوجود المطلق، وذات منهج شامل يعتني بكل الموجودات منها الكون. وقد انقسمت الفلسفة إلى مدارس ومناهج أي أنها أخذت تهتم بالعقلية الشمولية أو بالكون ككل ومن ضمنه نشاطات الإنسان"[14].

الفرق بين التاريخ والفلسفة

       إن الفرق الحقيقي بين المؤرخ والفيلسوف إنما يبدو من خلال التمييز بين الفلسفة والتاريخ، أو بمعنى أدق، بين الفلسفة والعلم بوجه عام على اعتبار أن التاريخ أحد العلوم الوصفية.

       ومن المعروف أن الفلسفة تختلف عن العلم عمومًا بصور شتى فمن حيث نقطة البدء لكل منهما فالعَالِم ينطلق من واقعة جزئية محدودة وموضوع دراسته هو هذه الوقائع أو الظواهر الجزئية وتبقى الفروق بين العلوم فروقًا بين نوع الوقائع التي يجعلها كل واحد من هذه العلوم موضوعاً له، فعلوم الحياة تختص بدراسة الكائنات الحية على اختلاف أنواعها، وعلوم الطبيعة تختص عمومًا بدراسة كل ما يتعلق بالظواهر الإنسانية بوجه عام، بينما ينطلق الفيلسوف في تأملاته إلى ما وراء هذا الواقع المحسوس ويتجه بهذه التأملات إلى ما وراء تلك الظواهر المادية المحسوسة أيًا كان نوعها.

       ولا يعني ذلك أن الفيلسوف لا يتأمل هذه الظواهر الجزئية مطلقًا، بل يعني أن الفيلسوف حتى وهو يتأمل الواقع الذي يعايشه سواء المتعلق بالإنسان وقضاياه ومشكلاته أو المتعلق بالطبيعة ومشكلاتها لا تتركز ملاحظاته أو تأملاته على جزئية من الجزئيات بقدر ما يلاحظ مدى الارتباط بين جزئيات ظاهرة كلية معينة، فنقطة بدء الفيلسوف حقيقة هي دراسة الكل الماثل في جزئياته بينما نقطة بدء العَالِم هي دراسة الجزئيات للوصول إلى النتيجة الكلية. أي أن العَالِم يبدأ دراسته مستخدمًا حواسه في ملاحظة الظاهرة موضوع الدراسة بينما يبدأ الفيلسوف مستخدمًا رؤيته العقلية العامة حول عموم الظاهرة دون أن يهتم بتلك التفاصيل الجزئية التي يهتم بها العَالِم[15]. 

       ومن هنا يمكن فهم الفرق بين منهج العَالِم ومنهج الفيلسوف، فمهج البحث عند الفيلسوف منهج عقلي يستند على النظرة الكلية الشاملة للظواهر التي يفكر فيها ويتأملها ومن ثم فهو لا يبحث عن تلك العلل القريبة للظواهر الجزئية، موضوع التأمل وإنما ينشد الوصول إلى العلة الكلية المفسرة لكل هذه الظواهر والكامنة خلفها جميعًا، بينما يقف العَالِم في بحثه في الظواهر عند حدود الوصول إلى العلة القريبة المفسرة لهذه الظاهرة الجزئية التي يبحثها. إن المنهج الفلسفي إذن منهج عقلي استنباطي بينما المنهج العلمي منهج تجريبي استقرائي[16].

       يرى الدكتور صائب عبد الحميد " النظرة الأولى لكل من «التاريخ» و«الفلسفة» من خلال طبيعة كل منهما وأهدافه، توحي بتعارض، أو تناقض، لا يمكن معه التوفيق بينهما.

       إذ إن الفلسفة تعني «الكشف عن الحقيقة، والحقيقة معناها مطابقة الفكر للواقع. فالحقيقة إذن تقتضي الثبات، مادامت هي في جوهرها ليست غير مطابقة الفكر للواقع.

بينما نشاهد من الناحية الأخرى أن التاريخ موضوع التغير، إذ لا يمكن أن يفهم بغير الزمان، أو بعبارة أخرى ليس التاريخ غير سلسلة من الحوادث المتتابعة التي تربط أشد الارتباط.

كلا الموضوعين إذن مختلف، الفلسفة والتاريخ، مدام موضوع الفلسفة هو الثبات، بينما موضوع التاريخ هو التطور والتغير والزمان »[17].

       ويقول الدكتور حسين مؤنس "إن الحقيقة أن الفرق بين طبيعة علم التاريخ، وطبيعة مباحث الفلسفة جسيم، فالفيلسوف فيلسوف بالطبع أو الاتجاه وأسلوب الفكر وطريقة النظر والاستدلال، والمؤرخ مؤرخ بطريقته ومنهجه، والغايات التي يرمى إليها من وراء ما يكتب من التاريخ، والمؤرخ الحق يجتهد في السير في حدود علم التاريخ والتزام منهجه في أمانة" [18].

العلاقة بين التاريخ والفلسفة

تتمثل هذه العلاقة في عدة نقاط هي:

       أ- تعالج الفلسفة بعض القصور في التاريخ كالإغراق في الأحداث والإسراف في الارتباط بالماضي، فتربط فلسفة التاريخ الإنسان بالحاضر ولا تدعه يغوص في الماضي.

      ب- تعالج الفلسفة عيبًا في بعض المؤرخين يتمثل في الإغراق في أحداث تاريخية لا حصر لها، فتحول الفلسفة هذه الأحداث إلى نسيج مترابط دون الدخول في تفصيلات.

       ج- أيضاً تعالج قصوراً في الفلسفة يعاني منه الفلاسفة، وهو قلق يرجع إلى رغبة في الوصول إلى الحقيقة التي يلتمسوها من واقعية التاريخ.

       د- تلبي للإنسان حاجة ضرورية، فهو كلما قلق في حاضره على مستقبله لجأ إلى الماضي، أي محاولة تفسير الماضي أو التاريخ. وذلك مثلما فعل أوغسطين بوضع نظرية العناية الإلهية.

       ه- يقال إن كل من الفلسفة والتاريخ يعالج قصوراً في الآخر؛ فالتاريخ يشد الفلسفة حتى لا تحلق بعيداً عن الواقع، بينما ترتفع الفلسفة بالتاريخ حتى لا يغوص في الماضي بإسراف. كما أن التاريخ يلتمس الحكمة من الفلسفة بينما تلتمس الفلسفة منه الواقعية[19].

       يقول الدكتور خاليد فؤاد طحطح "فالفلسفة فوق كونها تعبير عن روح عصرها، باعتبار الفكر الفلسفي ابن بيئته وظروفه، فإنها من جهة أخرى تسهم بشكل فعال في حشد القدرة الفكرية والذهنية للعقل البشري، ومن هنا ارتبطت الفلسفة بالتاريخ، باعتبار أن التاريخ من أهم الميادين الفكرية التي اهتم بها الإنسان منذ القديم، لذلك فالتاريخ من المعارف الإنسانية التي تعتبر وثيقة الصلة بالفكر الفلسفي، فالفلسفة تلتقي بالتاريخ من خلال علاقات عديدة، ليس فقط من حيث تاريخ الفلسفة، أي رصد تاريخ الفكر البشري وتقلباته فقط، بل من حيث هو فلسفة التاريخ: أي التفكير في تطور التاريخ، ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطور، بهذا المعنى يلتقي كل من الفلسفة والتاريخ باعتبار أن الفلسفة ظاهرة تاريخية مرتبطة بظروف عصرها ونشاطا عقليا حيويا في حياة شعوبها"[20].

       إن العلاقة بين الفلسفة والتاريخ، ذلك الفهم الذي يرى في عنوان «فلسفة التاريخ» تكراراً وعدم تلاؤم، ذلك لأن التفكير في التاريخ هو في ذاته تفلسف، ولا يمكن التفلسف إلا بالرجوع إلى الوقائع، أي إلى التاريخ».

       فالفلسفة هي عملية التفكير، تحليلاً وتركيباً واستنتاجاً، التي يمارسها المفكر إزاء وقائع التاريخ، وهذا المضمون هو الذي أراده (مارو Marrou) في اعتباره حقيقة التاريخ تابعة لفلسفة المؤرخ، سواء أقر بفلسفته صراحة أو ضمناً، لأن الدور الذي يلعبه التاريخ في تغدية الحياة الداخلية، أو الثقافية، إنما هو خاص بالتفكير الذي لا يمكن صدوره إلا من الفيلسوف[21].  

تعريف فلسفة التاريخ

       لنقل أولا إنه من الصعب جدا تحديد دقيق لما تعنيه عبارة فلسفة التاريخ، فالفكر الحديث رغم تقدمه لايزال عاجزا عن تقديم تحديد واضح وحاسم لهذا المفهوم، فإذا كان التاريخ  دراسة في أحوال الإنسان وحركته على الأرض، فإن كل مؤرخ يميل إلى تناول أحداث الماضي بما يملك من أفكار فلسفية وإيديولوجية، لذلك فمن الطبيعي أن يكون لهذه الأفكار أثرها الكبير في رؤيته التاريخية.

       وتعبير فلسفة التاريخ هذا لم يستعمل إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك خلال عصر الأنوار بفرنسا، على يد فولتير، غير أن التفلسف في التاريخ بدأ فعلا قبل ابتكار هذا التعبير بمدة طويلة، حيث يرى شيمت أن ابن خلدون هو الذي اكتشف الميدان الحقيقي للتاريخ، كما يرى كثيرون غيره أنه أبو التاريخ الحقيقي، أو مؤسس علم التاريخ بتعبير البروفيسور البان.ج. ويدرجي.

       إن فلسفة التاريخ مؤسسة على علم التاريخ، من حيث أنه علم الوقائع الموجودة في المكان والزمان، فالتاريخ لا يسير اعتباطا، وإنما حسب حدود مرسومة، وهذه الحدود هي المنطق الذي يربط حوادث التاريخ وينظمها، وهذا المنطق عبارة عن فروض عامة، أي فلسفة تصبغ تموجات التاريخ بصبغتها.

       فالتاريخ البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هدف، وإنما تحكمه سنن ونواميس، كتلك التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء سواء بسواء، وان الوقائع التاريخية لا تخلق صدفة وإنما من خلال شروط خاصة تمنحها هذه الصفة أو تلك، أو توجهها صوب هذا المصير أو ذاك[22].

       فتفسير التاريخ إذن يقصد به معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المتفرقة، ودراستها لاستبيان دوافعها وارتباطاتها ونتائجها، واستخلاص السنن والنواميس الإلهية منها، والاعتبار بالدروس والعضات فيها، وهي مرحلة تأتي بعد الدراسة النقدية للأخبار، فالذي ثبت من الوقائع والأحداث هو الذي يفسر، وتدرس ارتباطاته، ويتعرف على دلالته وآثاره، وذلك بهدف تفسير القوانين وتحديد السنن التي تتشكل بموجبها معطيات التاريخ بوقائعه المزدحمة والمتشابكة، من أجل وضع اليد على مجموعات نمطية من المؤثرات التي تتحكم بالحركة التاريخية، فتسوقها في هذا الاتجاه أو ذاك، فيما يعرف بفلسفة التاريخ.

       ففلسفة التاريخ هي التي تبحث في الوقائع التاريخية، فتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثر في سير هذه الوقائع، وتعمل على استنباط القوانين العامة التي تتطور بموجبها الأمم والدول، أي تهتم بتفسير وفهم مجرى التاريخ في ضوء نظرية فلسفية معينة، وتضع لعلم التاريخ أساسا فلسفيا، بحيث لا يبقى التاريخ مجرد سرد وتفسير للوقائع فقط، وإنما البحث عن القوانين الثابتة التي تتخطى الزمان والمكان، ولا تجري وفق الأهواء أو المصادفات، ومن ثم كانت مهمة فسفة التاريخ هي الكشف عن هذه القوانين التي تفسر تاريخ البشرية، وفق تحليل دقيق للمصادر التاريخية ودراسة المصطلحات العامة التي يستخدمها المؤرخون في تفسير الوقائع التاريخية كالعلية والفرضية والقانون ونحوه.

       إن فلسفة التاريخ تقوم على أساس وجود قوانين تتحكم في سير التاريخ، وهذه القوانين يجب اكتشافها والتعامل معها، ومن هذا المنظور يصبح التفسير التاريخي للحوادث اجتهادا بشريا يحتمل الخطأ والصواب، لأنه يدخل ضمن ميدان الدراسات النظرية[23].

       يقول الدكتور جاسم سلطان إن «فلسفة التاريخ» تقوم على كلمتين:

       كلمة فلسفة: ودون الدخول في المعنى المجرد لكلمة الفلسفة؛ نعني بها التأمل التجريدي للظواهر البشرية ومحاولة تفسيرها.أي النظر وتجريد الظواهر من ملابساتها وتحويلها إلى مفاهيم، بحيث يمكن استخدامها في سياقات أخرى.

       كلمة تاريخ: علم  التاريخ يقوم بجمع وتحقيق وتدوين وتفسي الأحداث التاريخية. وهو عندما يفعل ذلك يبدو علماً سكونياً كالجغرافيا الوصفية. ولكن عندما ننتقل لاستكشاف القوانين والاستفادة منها يتحول إلى علم حركي ديناميكي، كتحويل الجغرافيا إلى الجيوبولتيك.

      إن فلسفة التاريخ هي ذلك العلم الذي يحاول أن يكتشف القوانين الموجهة لحركة المجتمعات والدول والنهضات وأسباب صعودها وهبوطها. وليست وظيفة هذا العلم قاصرة على توصيف هذه القوانين، ولكنه- كأي علم آخر- يسعى لاكتشاف القوانين من أجل استخدامها وتوظيفها لمعالجة الظواهر القائمة والمستقبلية[24].

      «ويمكن القول إن فلسفة التاريخ في أبسط تعريف لها عبارة عن النظر إلى الوقائع التاريخية بنظرة فلسفية، ومحاولة معرفة العوامل الأساسية التي تتحكم في سير الوقائع التاريخية، والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة التي تتطور بموجبها الأمم والدول على مر القرون والأجيال. كما أن هناك من يقول أن التاريخ يسير وفق مخطط معين وليس بطريقة عشوائية، وأن فلسفة التاريخ هي رؤية المفكر للتاريخ أو حكمه عليه»[25].

       ففلسفة التاريخ إذن هي نوع من المعرفة الاجتماعية التي تبحث في الاتجاه العام لسير البشرية، وتحاول إيجاد قانون عام يحكم التاريخ الإنساني، وبهذا تكون المهمة الأساسية الأولى لفلسفة التاريخ إماطة اللثام عن النظريات التي تقوم بتأويل الأحداث التاريخية وإعطاء معنى لها، «وكذا الكشف عن القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية»، ومن ثم أصبح البحث في التاريخ وكتاباته فنا من فنون التناول الفلسفي في تاريخ الفكر[26].

 

 

بداياتها، تطوراتها، وضعها الراهن

      "يعتبر العلامة عبد الرحمن بن خلدون أول من استخدم تعبير فلسفة التاريخ، حيث قصد بها البعد عن السرد وتسجيل الأحداث دون ترابط بينهما، كما قصد بها التعليل للأحداث التاريخية"[27]. وقد سبق ابن خلدون الغربيين في موضوع فلسفة التاريخ حيث طرح آراء حضارية لتفسير التاريخ عُدت التفسير الحضاري في الوقت اللاحق، وذكر إن التاريخ يحمل في ثناياه معنى ظاهري وآخر باطني (حقيقي)، وأن الظاهري هو عبارة عن رسائل سريعة وروايات وسرد للأحداث والأخبار تبدو للقارئ وكأنها يُصعب الربط بين أجزائها، والمعنى الباطني يقوم على دراسة الظاهرة التاريخية وإخضاعها للتعليل والتمحيص والتدقيق للتأكد من صحتها أو زيفها، ومن هنا نرى أنها نظرة تميل إلى العلمية، هذا فضلاً عن الطروحات التي قدمها حول قيام الحضارات وسقوطها في نشوء الدولة وسقوطها، وعلى هذا الأساس عدّة البعض من كبار فلاسفة التاريخ الأوائل[28].

      "كما أن الفيلسوف الفرنسي "فولتير" كان أول من صاغ مصطلح فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر من بين الفلاسفة الأوروبيين"[29].

      ويتضح أن المسلمين كانوا أول من وضع نواة هذا العلم، يوم أن كانوا يسيرون على هدي كتاب الله، وينظرون في الآفاق {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}، ثم غاب نجم الحضارة الإسلامية وتسلمها الغرب واستكملوا مسيرة بن خلدون في البحث في هذا العالم[30].

       وقد تطور مفهوم فلسفة التاريخ في الدراسات الحديثة فأصبح مصطلحا يشير إلى جانبين مختلفين من جوانب دراسة التاريخ، الجانب الأول يجعلها دراسة لمناهج البحث، أي الطرق والأساليب المستعملة للتحقق من الوقائع التاريخية، وهذه الدراسة تتضمن في جملتها الفحص الدقيق لمنهجية المؤرخ، ومن هنا يمكننا القول أن فلسفة التاريخ تقوم بدور الناقد الأعلى، إذ أنها تقوم باختبار دقيق لما يدعيه أصحاب المنهج التاريخي من معرفة أو حقيقة، وهذا الفرع يطلق عليه الفلسفة النقدية للتاريخ.

      أما الجانب الثاني فيتمثل في تقديم وجهة نظر عن مسار التاريخ ككل، وهو ما يطلق عليه الفلسفة التأملية للتاريخ، والتي تهتم بالأسباب المؤدية إلى ظهور أنماط معينة في حركة التاريخ، عن طريق اكتشاف القوانين المتحكمة في ذلك والتنبؤ على أساسها بالمستقبل، وهذه النظرة التأملية للتاريخ تمثل الدراسة التي يقوم بها المؤرخ للعصور السابقة بهدف استخلاص القوانين التي تحكم سير الحياة والإنسان والمجتمع والدولة والحضارة[31].

       كما شهد مفهوم "فلسفة التاريخ" تطوراً مستمراً، مع تطور هذا الفن:

       فقد استخدمه الأوربيون أولاً، في القرن الثامن عشر، وأرادوا به التعليق على الأحداث التاريخية، فكانت "فلسفة التاريخ" تعني "تأملات في التاريخ" انعكست في كتابة التاريخ على ضوء فكرة التاريخ العالمي، مرتبطة بفكرة الإنسانية والحضارة، حيث قدم هذا الاتجاه من الفكر التاريخ على نحو أقرب إلى الفلسفة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت فلسفة التاريخ شديدة الأهمية، فلم يعد الحدث التاريخي بمنأى عن فلسفة التاريخ.

       وبناء على ما عرفت فلسفة التاريخ بأنها: «التعليق على الحدث التاريخي، وبيان أسبابه، وذكر فروض مختلفة حوله، مع محاولة الإجابة عن هذه الفروض»[32].

       لكن فلسفة التاريخ لم تقف عند هذا الحد، فقد تطور البحث في أسباب الحوادث التاريخية والتأمل فيها، إلى البحث في قانون العلية في حركة التاريخ، وعندما توصل البحث إلى «أن قانون العلية يجري في التاريخ كما يجري في العلوم الطبيعية، أصبح من مهمة فلسفة التاريخ، الكشف عن القوانين الفاعلة في حركة التاريخ، فأصبحت فلسفة التاريخ تعني: دراسة طبيعة الحوادث التاريخية وروابطها العلية والمعلولية، للوصول إلى مجموعة من القواعد والضوابط العامة التي يمكن تعميمها لجميع الموارد المشابهة في الماضي والحاضر والمستقبل».

       فأصبحت الحوادث والوقائع التاريخية بمثابة العناصر التي يقوم عالم الطبيعة بدراستها، لاكتشاف خصائصها وروابطها العلية والمعلولية، للوصول إلى القوانين الكلية التي تحكمها.

      ورغم الاختلاف والتباين الواسعين في الموقف من العلية في الحوادث التاريخية، وفي تفسير طبيعتها، إلا أن ذلك لم يوقف حركة فلسفة التاريخ باتجاه تفسير الظواهر التاريخية واكتشاف قوانين عامة في حركة التاريخ وإمكان تعميمها، كما سيأتي بيانه في محله.

       وقد اصطلح البعض على هذه القوانين ب «قوانين الحياة» أو «قوانين الكون» أي الكينونة، ذلك لأنها تعنى بأحوال المجتمعات في مرحلة خاصة من مراحلها، أو في مراحلها، المتعاقبة، من قبيل عوامل نشوء الحضارات، وعوامل سقوطها[33].

       لكن الوعي التاريخي انتقل من النظرة إلى المراحل التاريخية المتعاقبة وقوانينها، إلى نظرة أوسع «يُنظر إلى التاريخ على أساسها على أنه يؤلف وحدة». ومن هنا ستظهر الحاجة إلى اكتشاف قوانين تطور المجتمعات وانتقالها من مرحلة إلى مرحلة أخرى.

       وحتى عندما ينظر إلى التاريخ على أنه وحدات منفصلة عن بعضها (كما عند اشبنجلر) أو وحدات بينها روابط وأواصر أبوة (كما عند توينبي) فإن القوانين التي يخضع لها تطور المجتمعات وتبادل الحضارات، مازالت هي مدار اهتمام فلسفة التاريخ.

       وعلى هذا عرفت فلسفة التاريخ بأنها الفلسفة «تحاول استنباط قوانين، أو وجهات عامة لسير المجتمعات البشرية في التاريخ».

       وبعبارة أخرى: «هي العلم بحركة المجتمعات وتحولها من مرحلة إلى أخرى، والقواعد الحاكمة على هذه التطورات والتحولات».

       إذن فإن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة التاريخ هي «افتراض أن التاريخ استمرار واتصال في الحركة والتطور، بحيث يكون الماضي داخلاً في تكوين الحاضر والمستقبل».

       أي فكرة أن التاريخ موجود متحرك، وفق نظام وقوانين تلازمه في مسيرته، وأنه ابتدأ بزمن ما، ويمر عبر طريق إلى غاية ما. وفلسفة التاريخ إنما تبحث في هذه الحركة، وقوانينها، واتجاهاتها، وغايتها.

       ففلسفة التاريخ إذن «لاتقف عند عصر معين، ولا تكتفي بمجتمع خاص، وإنما تضم العالم كله في إطار واحد، من الماضي السحيق، حتى اللحظة التي يدون فيها الفيلسوف نظريته، بل قد يمتد إلى المستقبل»[34].

 

أشهر وأهم رواد فلسفة التاريخ

1- كيافللي، نيقولا Niccolo  Machiavelli  (1469- 1528):

      لم يكن مكيافللي فيلسوفاً، ولا كان مؤرخاً بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما كان سياسياً وعسكرياً، إضافة إلى كونه شاعراً وأدبياً.

       نظر مكيافللي إلى التاريخ في إطار السياسة التي تهدف إلى السلطة، وتمسك بها بقوة، وفي الاطار لا محل للاعتبارات الأخلاقية، ومن هنا انطلقت مقولته الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة». ومع ذلك فقد كان له دور ريادي في كتابة التاريخ بطريقة حديثة في كتابه (تاريخ فيرنتسه)، من خلال محاولته اكتشاف أنماط عامة تفسر أسباب الأحداث، وفي اعتماد المنهج النقدي المقارن في كتابيه (الأمير) و (مقالات).

       وتقوم رؤيته إلى التاريخ على أصالة النزاع في طبع الإنسان، وأن المظهر الأساسي لهذا النزاع هو الصراع الأزلي الدائم بين عامة الشعب من جهة، وبين العظماء والأقوياء من جهة أخرى، وأن السبب الذي يكمن وراء هذا النزاع هو إرادة القوة والشهوة إلى السيطرة عند القلة وتشدان الأمن والاستقرار عند الغالبية العظمى.

       وهو في تفصيله أطوار هذا النزاع يبدو مستعيراً أفكار أفلاطون وأرسطو في السياسة المدنية. فهذا النوع من النزاع موجود في «الدولة الفاضلة» كما هو موجود في «الدولة الفاسدة». والنزاع في الدولة الفاضلة يأخذ مكانه داخل حدود معلومة: إنه يتحدد بالعمل الوطني للخير المشترك الذي يتجاوز المصالح الضيقة، وبالرغبة في احترام القانون وإطاعة السلطة، ومثالها في « روما الجمهورية» حيث نظم النزاع من خلال مجلس الشيوخ والجمعيات الشعبية. أما في «الدولة الفاسدة» فتفرق الأهواء، وتنحل العواطف الدينية، والأمانة المدنية، وروح الواجب المدني، وتزداد الأحزاب وتكثر المؤامرات، ويستشري الترف والتراخي، ويزداد التفاوت بين الثروات، ونموذجها البارز هو «فيرنتسه»[35].

2-  جان بودان (1530-1596):

       هو أقدم فلاسفة أوربا الحديثة الذين منحوا لقب « مؤسس فلسفة التاريخ».

       ومع أنه لم يبتعد عن نظرة القرون الأوربية الوسطى للسياسة، فالسلطة عنده هي التي تصنع القانون، وإرادة الملك هي القانون الأسمى. إلا أن له في فلسفة التاريخ رؤى جديدة استحق بها السبق على من تلاه:

       فقد ذهب إلى الفصل بين ما هو إلهي وما هو طبيعي في الكون، مع محاولة التوفيق بينهما، فالتاريخ يشمل الطبيعة والله معاً. والإنسان بتركيبه المزدوج من جسد وفكر، أو روح، يمتلك بعض المميزات التي تنظم العالم المادي والعالم الإلهي.

       إن الإلهي يجب أن يعتبر غير قابل للتغيير، وكذلك فإن العالم المادي يشكل نظاماً راسخاً، لذا فإن المعالجة الكاملة للتاريخ، التي تدخل في الاعتبار طبيعة الانسان المزدوجة، يتوجب عليها أن تتضمن علوم الطبيعة كما تتضمن الدين على حد سواء.

       إن التاريخ ينشأ من ابتداع إلهي، وتكون له نهايته على الصعيد الأرضي.

   وهو أول من قال بالنظرية البيئية في التاريخ، في أوربا، فآمن بتأثير البيئة على النشاط الانساني، وبالتالي على التاريخ كله، لكنه ليس التأثير الذي تنعدم معه قدرة الانسان على الفعل، فالتاريخ الانساني ليس محدداً تحديداً تاماً بالظروف المادية والعادات الاجتماعية، ولكنه في بعضه يستند إلى حرية الفرد في الاختيار، ويستطيع الانسان الصمود في حدود هائلة في وجه القوى الخارجية، ويستطيع أن يحولها لصالحه.

       وأهم من ذلك كله فهو أول من قال بوجود «قانون شامل» في التاريخ، فلاحظ أن تطور القانون المدني يكشف وجهاً من النظام في التاريخ، لذلك يوجد «قانون شامل» للتاريخ  وراء القوانين الخاصة لدى مختلف الشعوب، ودراسة وقائع التاريخ تتيح التحقق من وجود هذا القانون الشامل.

       وأخيراً، يرى بودان أن للتاريخ مسيرة عامة باتجاه التقدم، مع أنه تقدم إجمالي تتخلله حقب من الانحطاط والتراجع. فهو أول القائلين بنظرية التقدم في التاريخ[36].

3- هوبز توماس Thomas Hobbes (1588- 1679):

       الفيلسوف والمفكر السياسي الانجليزي، الذي تميز بنزعة مغالية في المادية.

   وفي نظرته إلى التاريخ لم يتجاوز هوبز حدود السايسة المدنية.

       ولما كان يرى أن كل ماهو موجود هو مادة، وكل ما يتغير هو حركة، وأن المبدأ الأول والأساس والنهائي لكل شيء هو المادة والحركة، فإن كل نظرية عنده هي نظرية أجسام، وحتى الفلسفة، ماهي إلا نظرية حركة الأجسام، بما فيها المواطنون (الأفراد) بوصفهم أجسام المجتمع الفردية.

       ولكي تدخل السياسة المدنية والأخلاق طاق هذه الفلسفة، فهو يعرف نوعاً ثانياً من الأجسام، بعد الأجسام الطبيعية، وهو الذي تضعه إرادات الناس واتفاقهم، ويسمى بالدولة، وهو موضوع الفلسفة المدنية، والأخلاق ضرورية لهذه الفلسفة لأنها تتناول استعدادات الناس ومسالكهم.

أما كيف نشأت الدولة، وماهي طبيعتها؟ فهو موضوع هوبز في السياسة المدنية في كتابه الرئيسي: «لوياثان، أو مادة وصورة وسلطة الجماعة الدنينة والمدنية» أي الحكومة:

    "Leviathan, or the Matter, Form, and power of a Commonwealt Eclcsiastical and Civil

       ولوياثان هو اسم الحوت في سفر أيوب، جعله هوبز رمزاً للدولة.

       أقام هوبز فلسفته على نظرة خاصة للإنسان ، فالإنسان عنده ليس كائناً اجتماعياً بالطبع، كما ذهب أرسطو وغيره، بل هو كائن شرير، حافل بالنقائض، فاسد، خبيث، تدفعه المصلحة الذاتية، وتتحكم فيه الغرائز الأولية من أنانية وجشع، وهو لا يذعن إلا إذا خاف، ولا يحب السلام، بل فزعاً من نتائج الحرب.

       إن « الإنسان للإنسان ذئب، والكل في حرب ضد الكل، والواحد في حرب ضد المجموع».

  والناس بطبيعتهم أيضاً يخضعون لغريزة البقاء، وإحساسات اللذة والانزعاج، ونتيجة لهذا فإن الناس يبحثون،    إطاعة منهم لغريزة بقائهم، عن الذي يسبب لهم لذة، ويهربون من الذي يسبب لهم انزعاجاً، فيتحركون بدافع مصالحهم نحو إيجاد« العقد الاجتماعي للأفراد» الذي يتمثل في مجتمع تسوده القوانين، فيزول الخوف والنزاع.

       وهكذا تكون «غريزة البقاء» بوصفها نظرية الحركة المنظمة لعدد كبير من الأفراد المدفوعين بمصالحهم، هي العلة في نشأة الدولة والنظم الاجتماعية.

       وأخيراً تبقى لهوبز وجهة نظر أخرى استفاد منها فلاسفة التاريخ في دعم الرؤية العلمية للتاريخ، على عكس ما أراده هوبز، فهو يرى أنه «ليس بإمكاننا معرفة موضوع ما، إلا بالقدر الذي فيه نحن أنتجناه بأنفسنا، وبما أننا أنتجنا كل الموضوعات الرياضية، فبوسعنا معرفتها حتى النهاية، ولذا فالرياضة هي على سبيل الامتياز أداة كل تقييم للعالم بوصفه طبيعة».

       فلاحظ فيكو vico أن هذا الانتاج لا يمكن تطبيقه على العالم بوصفه طبيعة، إذ إن البشر لم يصنعوا الطبيعة، بل التاريخ.

      كما استفاد منها ماركس: أن معرفة التاريخ أسهل من معرفة الطبيعة، إذ إن تاريخ البشر يتميز عن تاريخ الطبيعة في كوننا صنعنا الأول، لكننا لم تصنع الثاني[37].

4- فيكو، جامباتيستا Giambatista Vico  (1668- 1744):

       «أبو فلسفة التاريخ« بحسب الكثير من فلاسفة أوربا. «هو الفيلسوف الايطالي الذي هجر الموقف النفعي للتاريخ الذي ميز النهضة الايطالية، وأتم في مجال التاريخ ما حققه بيكون بالنسبة للاستقصاء في العالم الطبيعي، وكان بهذا أحد مؤسسي علم التاريخ».

       عمله الرئيسي في مجال علم التاريخ وفلسفة التاريخ هو «مبادئ علم جديد عن الطبيعة المشتركة للشعوب» الصادر سنة 1725م.

       يرى فيكو أن للتاريخ حركة دائرية متكررة على الدوام، تتمثل في أدوار ثلاثة متعاقبة، غير أن هذه الحركة ليست كحركة العجلة التي تدور حول نفسها، ولكنها حركة حلزونية، لأن التاريخ لا يعيد نفسه على نفس النمط، ولكنه يأتي بصورة جديدة، فالتاريخ إذن في تجدد دائم.

       وهذه الأدوار الثلاثة هي:

أ‌-            دور الآلهة: الذي ظهر أولاً في العهد البدائي، ويميز حكم الظلام والخوف والسحر، ولغة الشعر، أو لغة الحكمة الشعرية، إنه عهد الثيوقراطية.

ب‌-           دور الأبطال: أو العهد البطولي الذي يحكمه رجال أشداء، وتسود فيه الارستقراطية.

ج‌-            دور الانسان: الذي اعترف الناس فيه بأنهم متساوون في الطبيعة، نتيجة لذلك أقاموا خلاله جماعات شعبية بدائية، ثم ممالك، مكونة كلاهما من أشكال الحكومة الانسانية، فهو عصر الديمقراطية.

       ولقد مرت جميع الشعوب بمراحل هذا التطور، وبعدئذ سقطت في البربرية، ومنذ ذلك الحين تكرر العملية، في تعاقب دوري، تتصل نهاية الدور الثالث بالدور الأول، إما لنفس الأمة، أو لأمة  أخرى.

       وإلى جانب هذا آمن فيكو ب «العناية الالهية» حيث يقول: «إن العلم الجديد، جديد بأحد سماته الرئيسية؛ برهان لواقعة العناية التاريخية، إذ يجب أن يوجد تاريخ لأشكال النظام الذي منحته العناية لمدنية الجنس البشري الكبرى في معزل عن بصيرة الناس ومآربهم، وفي الغالب على عكس مشاريعهم».

       ويعترف فيكو بأنه اقتبس من أفلاطون التصور الذي احتوى في إطاره معالجته للتاريخ، لاسيما مبدأ العناية الإلهية، حيث يقول: «إن أفلاطون الإلهي يؤكد بأن العناية توجه سير الشؤون الانسانية»[38].

5-  مونتسكيو Albaron Charles de Montesquies (1689-1755):

       المؤرخ والمفكر السياسي الفرنسي، الذي وصفه بعضهم بمؤسس فلسفة التاريخ، وعده آخرون واضع الحجر الأساس للطريقة العلمية في التاريخ.

      تناول مونتسكيو التاريخ في كتابه «روح القوانين» أو «روح الشرائع» الصادر سنة 1748، كواحد من الموضوعات العديدة التي ضمها الكتاب. وتركز بحثه في العلل والمعلولات في التاريخ، لا في مغزاه، لاسيما في كتابه الآخر «تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحلالهم» الذي كتبه سنة 1734م. يقول مونتسكيو: «ليست الصدفة هي التي تحكم العالم... إن هناك أسباباً عامة، معنوية أو مادية، تؤثر في كل حكومة، تخلقها، أو تحافظ عليها، أو تدمرها. وكل الأحداث خاضعة لهذه الأسباب، وإذا تصادف أن دمرت معركة واحدة- أي سبب فرد- دولة ما، فإن سبباً عاماً هو الذي خلق الموقف الذي جعل هذه الدولة تنهار بسبب هزيمتها في معركة واحدة ».

    فهو أول من تحدث عن «العلية» في التاريخ بهذا القدر من العمق والاتساع، ليكتشف من خلالها العوامل التي تشكل طبيعة المجتمع وشكل الحكومة وقوانين الدولة، ليعطي العوامل الطبيعية من المناخ والموقع الجغرافي وطبيعة الأرض، الدور الأكبر في توجيه مسار التاريخ[39].

6-  فولتير Voltaire (1694- 1778):

       واسمه الحقيقي (فرانسوا ماري آرويه Francois Marie Arouet) أما «فولتير» فاسم مستعار استخدمه واشتهر به.

       وفولتير هو أول من استخدم اصطلاح «فلسفة التاريخ»، وهو مؤسس المدرسة العقلانية في علم التاريخ بوصفه العقل الكبير الموجه لها. ثم هو القائل: «لا ينبغي أن يكتب التاريخ سوى الفلاسفة».

       وتتلخص رؤية فولتير في فلسفة التاريخ بما يلي:

         «العقل هو الذي يكمن وراء حركة التاريخ، وغريزة الانسان التي تدفعه إلى المجتمع يدعمها العقل.

       وثمة ثلاثة أشياء تؤثر على فكر البشر: المناخ، ونوع الحكم، والدين.

       وهذه هي الوسيلة الوحيدة لتفسير لغز العالم.

         وحركة التاريخ في تقدم، فإن الانتصارات البشرية على الأشياء، وتناحر الجماعات البشرية، وتقدم الأخلاق والعلوم والفنون، هذا جرى بصورة طبيعية، وكل هذا سيستمر متزايداً كلما توسع أفق العقل البشري ».

       فهو إذن من أوائل القائلين بسيطرة العقل على التاريخ، وبنظرية التقدم في حركة التاريخ.

       وينظر فولتير إلى التاريخ على أنه في أساسه نتاج احتكاك الأفكار والحضارات..

فالمسيحية جاءت لتتحدى الوثنية، والإسلام دخل في صراع مع المسيحية، والمذهب البروتستانتي ظهر يتحدى الكاثوليكية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، أما عصر فولتير نفسه فقد تغلب فيه العقل على كل الخرافات وشتى البدع.

       وكان فولتير، كواحد من مؤسسي المدرسة العقلانية، ينكر نظرية العناية الإلهية، ويميز بين نوعين من العناية: العناية الكلية، والعناية الجزئية، وقد أنكر العناية الجزئية، أي تدخل الله تعالى بجزئيات الكون والحياة، لأنه يعتقد بأن الله خلق الكون كله وفقاً لقوانين ثابتة لا يمكن أن تتغير، أما العناية الكلية فيقصد بها وجود نظام كوني قائم على قوانين كلية ثابتة.

      ويعتبر كتابه «مقالة في سلوك الأمم وروحها» الصادرة سنة 1756م، أول تاريخ عالمي بالمعنى الحقيقي للعبارة- بالرغم من عدم إتمامه خطة الكتاب التي وضعها ليكون كتابه هذا تاريخاً شاملاً لثقافة كل العصور وكل الشعوب- لأنه يعتبر بحق أساس تاريخ الحضارة بمعناه الحديث، وهو أول عمل ينصف غير المسحيين، وخاصة الشرقيين والمسلمين، ويقر بدورهم الذي أسهموا به في تطوير الحضارة الأوربية.

      لقد اكتشف فولتير أن تاريخ الحضارة هو الطريق الوحيد الذي ينتظم فيه كل تاريخ المدنية، فعزم أن لا يتناول الملوك بل الحركات والقوى والجماهير، ولا يتناول الدول بل الجنس البشري، ولا يتناول الحروب بل سير وتقدم العقل البشري.

       فأنتج بذلك أول محاولة منظمة لتتبع مجاري الأسباب الطبيعية في تطور العقل الأوربي، هذه المحاولة قد اعتبرها البعض أول فلسفة للتاريخ[40].



- حسن عثمان،  منهج البحث التاريخي، دار المعارف- 1119 كورنيش النيل- القاهرة، ط 8، ص:12.[1]

[2] - مصطفى النشار، من التاريخ إلى فلسفة التاريخ قراءة في الفكر التاريخي عند اليونان، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة) عبده غريب، ص: 10- 11.

[3]- نفسه، ص: 12.

[4] - أحمد عطية، فلسفة التاريخ، ص: 11.

[5] - د. اسحاق عبيد، معرفة الماضي، ص:  1.

[6] - حسن عثمان، منهج البحث التاريخي، ص:11

[7] - د. شوقي الجمل، علم التاريخ، ص: 8.

[8] - أحمد عطية، فلسفة التاريخ، ص: 4.

[9] - د. رأفت غنمي الشيخ، فلسفة التاريخ، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة1981- 1988، ص: 12- 13.

[10] - د. أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، ص: 16.

[11] - د. رأفت غنمي الشيخ، فلسفة التاريخ، ص: 10.

[12] - د. مصطفى النشار، فلسفة التاريخ نشأتها وتطورها من الشرق القديم حتى توينبي، دار النشر نيوبوك للنشر والتوزيع، ط 1، ص: 31.

[13] - خاليد فؤاد طحطح، في فلسفة التاريخ، الطبعة الأولى 1430ه- 2009م، ص: 28- 30.

[14] - د. مفيد الزيدي، المدخل إلى فلسفة التاريخ، الطبعة الأولى 1426ه- 2006م، ص: 9.

[15] - د. مصطفى النشار، فلسفة التاريخ نشأتها وتطورها من الشرق القديم حتى توينبي، دار النشر نيوبوك للنشر والتوزيع، ط 1، ص: 33- 34.

[16] -  نفسه، ص: 34- 35.

[17] - د. صائب عبد الحميد، فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة، دار الهادي، ص: 33-34.

[18]- د. حسين مؤنس، التاريخ والمؤرخون، دار المعارف 1984، ص: 41.

[19] - أحمد عطية، فلسفة التاريخ، ص: 21- 24.

[20] - خاليد فؤاد طحطح، في فلسفة التاريخ، الطبعة الأولى 1430ه- 2009م، ص: 30- 31.

[21] - د. صائب عبد الحميد، فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة ، ص: 35.

[22] - خاليد فؤاد طحطح، في فلسفة التاريخ، ص: 31-32.

[23] - نفسه، ص: 32-33.

[24] - د. جاسم سلطان، فلسفة التاريخ الفكر الاستراتيجي في فهم التاريخ، الطبعة الرابعة، 1431ه- 2010م، ص: 21- 22.

[25] - د. رأفت غنمي الشيخ، فلسفة التاريخ، ص: 14.

[26] - خاليد فؤاد طحطح، في فلسفة التاريخ، ص: 31.

[27] - - د. رأفت غنمي الشيخ، فلسفة التاريخ، ص: 14.

[28] - د. مفيد الزيدي، المدخل إلى فلسفة التاريخ، ص: 28.

[29] - المصدر نفسه.

[30] - د. جاسم سلطان، فلسفة التاريخ الفكر الاستراتيجي في فهم التاريخ، ص: 24.

[31] - خاليد فؤاد طحطح، في فلسفة التاريخ، ص: 33-34.

[32] -  د. صائب عبد الحميد، فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة، ص: 26.

[33] - نفسه، ص: 26- 27.

[34]- نفسه، ص: 27- 28

[35] - د. صائب عبد الحميد، فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة، ص: 62-63.

[36] - نفسه، ص: 65- 66.

[37] - نفسه، ص:66- 67- 69.

[38] - نفسه، ص: 69- 70-71- 72.

[39] - نفسه، ص: 72.

[40] - نفسه، ص: 75- 76-77.


تعليقات