أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

الاتجاه البنائي الوظيفي

 

الاتجاه البنائي الوظيفي

مقدمة

       استعان المدخل البنائي الوظيفي بنظرية النسق الاجتماعي، مع أنه لا يمكننا في الحقيقة أن نتحدث عن تحليل وظيفي موحد، فقد تعددت الاتجاهات الوظيفية في علم الاجتماع الأمريكي فقط إلى درجة أحصى منها "ميلفورد سبيرو" Spiro. M عام 1953 اثني عشر (12) توجها مختلفا، إذ ينطلق هذا مدخل نظرية النسق من مسلمة أساسية، "هي فكرة تكامل أجزاء النسق في كل واحد، والاعتماد المتبادل بين عناصر المجتمع" والنسق هو ذلك الكل المكون من أجزاء متساندة ومتشابكة تتفاعل فيما بينها، وتتأثر هذه الأجزاء بالكل وتؤثر فيه. ويعتبر هذا الاتجاه من أبرز الاتجاهات الرئيسية في دراسة التنظيم وذلك لما يحتوي عليه من تصورات وأطر تفسيرية للواقع الاجتماعي ويتمحور هذا الاتجاه على تصور البناء الاجتماعي بأنه يتكون من أنظمة مترابطة ومتكاملة وتمارس وظائف متكاملة تعمل على استمرار هذا البناء والحفاظ عليه وهذه النظم هي الأخرى تتكون من أنساق مترابطة ومتكاملة ومما سبق فإن هذا الاتجاه يرى بأن البناء الاجتماعي يتكون من أبنية وأنساق تؤدي وظائف معينة متكاملة من أجل خدمة الوظيفية العامة للبناء الاجتماعي وتحقيق بقائه واستمراره وقد تتعطل وظيفة من وظائف أحد الأبنية الفرعية مما يؤثر على وظيفة البناء الكلي وعدم قدرته على تحقيق أهدافه العامة لكن البناء يعيد التوازن إلى ذاته عن طريق ميكانيزمات جديدة يفرزها لهذا الغرض ولهذا فإنه بإمكاننا الوقوف على المسلمة الرئيسية التي يستند إليها هذا الاتجاه وهي أن الأصل في المجتمعات البشرية هو التكامل والتوازن والاستقرار أما الصراع والتخلل فهو شيء خارج عن المألوف وحدث طارئ ومرضي لذا نجده يهتم بالمسائل التي تؤدي إلى الاستقرار والمحافظة عن النظام القائم. وبرزت مساهمات البنائية الوظيفية في الفكر التنظيمي بعد الانتقادات التي وجهت إلى النظريات الكلاسيكية الخاصة بالإدارة البيروقراطية، وكذا النظريات ذات البعد الواحد. حيث ينطلق هذا الاتجاه من فكرة مفادها أن الظواهر تتشابك في بيننها، وأن التنظيمات عبارة عن أنظمة اجتماعية تتكون من مجموعة من الأنساق الاجتماعية الفرعية تتشابك وتتفاعل فيما بينها وتهدف إلى تحقيق التكيف مع الكل الذي تعتبر هي جزء منه.

       يرى أصحاب الاتجاه الوظيفي أن النظم الاجتماعية مثلها مثل الكائنات الحية، لها حاجات الاستمرار في الوجود والتكيف مع البيئة وتحمل بين أجزائها نمطا من الاتصال المتبادل. والمنظمات كأنساق مترابطة تتكون من سلسلة مترابطة من العمليات.

       فهذا الاتجاه ينظر إلى المؤسسة بوصفها بناء كلي يتكون من مجموعة من الأنظمة الفرعية الفعالة، التي تتفاعل فيما بينها لتحقيق الهدف، أو بصيغة أخرى، "المؤسسة نسق اجتماعي يعمل ضمن نسق أكبر، وتحتوي في نفس الوقت على أنساق فرعية تعاونية تتفاعل فيما بينها من أجل تحقيق وظيفة في بنائية النسق الأكبر، وأن هذا النسق الاجتماعي الذي يشكل المنظمة يختلف على باقي الأنساق الأخرى وله القدرة على التأثير على نفسه من أجل تغيير نفسه بنفسه".

       والنظام الكلي في هذه النظرية يأتي قبل الجزء، ولفهم الجزء بالضرورة يسبقه فهم الكل، لأن الأنساق الفرعية ماهي إلا أنساق تعاونية لها تأثير وظيفي متبادل من أجل خدمة الكل في الإطار التعاوني[1].

       إن المنظور الوظيفي يقوم أساسا على تحليل وتفسير السمات البنائية والعمليات الاجتماعية التي تميز المنظمات ويحدد العناصر البنائية التي يجب توفرها في التنظيم كالآتي:

-       وجود جماعة ثابتة لها قيم تضامنية.

-       وجود مجموعة من الأهداف المحددة والواضحة التي ترسم أبعاد التنظيم ونشاطاته وتبرر وجوده وتحافظ على بقائه وتحديد طريقة تحدد هذه الأهداف من خلال معايير و أدوار محددة.

-       إتباع تنظيم دقيق لنشاطات الأفراد بطريقة تضمن أفضل تقسيم للعمل يمكن أن يتولى بمقتضاها كل عضو مهام وواجبات محددة يتعين عليه أداؤها إذا ما أراد الاستمرار في عضويته.

-       وضع نظام رئاسي (متسلسل رئاسي) يحدد واجبات وحقوق كل عضو داخل التنظيم يرتبط به تسلسل محدد للسلطة يتخذ شكلا هرميا (تسلسل السلطة).

-       وضع نظام محدد للاتصال يحدد القنوات والمسارات التي تنظم العلاقات الرئاسية بين كافة المستويات داخل التنظيم.

-       إتباع نظام عادل في التعيينات والترقيات والأجور والمكافآت.

-       وجود نظام قانوني يضبط سلوك الأفراد.

 يرتكز هذا المدخل البنائي الوظيفي على جملة من العناصر من شأنها تحقيق الهداف البنائي الوظيفي، وهي:

أ. التاريخ: حيث يفيد في فهم الواقع الحالي من خلال استقراء التطور الذي حدث في الماضي، وماهية العوامل التي جرت خلال الفترة الماضية وأدت إلى استمرار أو عدم استمرار منظمة العمل في آداء العمل في فترات متتالية، وبعدها قياس الحاضر باعتباره نتاج الماضي والتنبؤ بالمستقبل باستعمال نفس المعايير، ويفيد ذلك جدا في تحليل ظواهر التنظيم في مقدمتها الإدارة.

ب. القيم: وتعتبر عناصر بنائية تشتق أساسا من التفاعل الاجتماعي، لها دور بالغ الأهمية لأنها تساعد على تحليل الأهداف والسلوك والتفاعل والبناء الاجتماعي، كما تفيد في فهم مجتمع التنظيم باعتبار أن النشاطات في مختلف المنظمات تستمد دلالتها من الأهداف والقيم والغايات التي تستطيع فهمها فقط.

ج. البعد التكنولوجي: وما يرتبط به من تقدم وزيادة في تقسيم العمل وزيادة فرص العمل وما يصحبهم أيضا من توترات ومشاكل.

د. الأهداف التنظيمية: والتي يلزم أن يكون لها الأولوية على أهداف الأفراد ومطالبهم الشخصية فللأهداف التنظيمية مبادئ تمت صياغتها حين قام المجتمع الصناعي؛ تتحدد بصفة رسمية، يعمل الجميع من أجل تحقيقها. إن الأهداف التنظيمية والأهداف الفردية لأعضاء البناء الاجتماعي (التنظيم) تمر جنبا إلى جنب حتى لا يحدث التضارب أو الصراع، و إن حدت التغيير في الأهداف لضرورة معينة كالتقدم التكنولوجي أو غيره، يلزم أن تواكبه الأبعاد السوسيولوجية بالدراسة والفحص[2].

ه. البناء التنظيمي: ويتحدد في شكل الهرم الوظيفي داخل مجتمع التنظيم، والذي يقع في قمته أعضاء الإدارة العليا، يليهم أعضاء ومستويات الإدارة الوسطى والإشراف، في قاعدة الهرم يكون العمال، فالهرم الوظيفي عند البنائيين يقوم على الأدوار التي يقوم بها الأعضاء كل في مركزه ومكانته في الهرم.

        فالبناء الاجتماعي لمجتمع التنظيم يتكون من المراكز والأدوار والسلطات والمسؤوليات والقواعد التي تحدد نمط السلوك المتوقع بطريقة رسمية[3].

1. تالكوت بارسونز Parsons

       يعد من ابرز مؤسسي الاتجاه البنائي الوظيفي، وقد تأثر في كتاباته بما ذهب إليه ماكس فيبر لكنه خالفه في نموذجه العقلاني للبيروقراطية، فقدم نموذجا جديدا في فهم التنظيمات يقوم على فكرة التوازن، استخدم بارسونز في تعامله مع التنظيم فكرة النسق الاجتماعي، ويعني النسق في ابسط معانيه "العلائقية أو الارتباط أو التساند، وحينما تؤثر مجموعة وحدات وظيفية بعضها في بعض، فإنه يمكن القول أنها تؤلف نسقا... وتتضمن فكرة النسق الإشارة إلى البيئة المحيطة به وتنطوي هذه البيئة على أقصى درجات التفاعل والتداخل بين مختلف عناصر ومكونات البيئة، وكذلك تثير مسألة البيئة مشكلة حدود النسق والحدود هي الإطار الذي يحيط بالنسق ويتبادل معه التأثير والتأثر"[4].

       إن توظيف بارسونز لمفهوم النسق في مقاربة التنظيم يعني إقراره وجود علاقة تفاعلية تسير في اتجاهي التأثير والتأثر بين طرفي التنظيم والبيئة، لكن كيف يحدث ذلك؟ في البداية يقف بارسونز عند توضيح القضايا التالية:

- تعد التنظيمات انساق فرعية تتمتع بمجموعة خصائص وصفات وهي تدخل في تركيب النسق الكلي للمجتمع.

- تعبر التنظيمات عن تنسيق جهود جماعية تتم عبر نشاطات رسمية تكون موجهة نحو انجاز أهداف محددة.

- تتفاعل هذه الانساق الفرعية على النحو الذي يؤدي إلى تحقيق التكامل الوظيفي بينها بما يضمن بقاء النسق الكلي، ديمومته ويحفظ فكرة التوازن لديه استنادا إلى مبدأ التوازن الديناميكي للأنساق.

- تكون هذه الانساق في حالة إصغاء دائم لمتطلبات وظروف النسق الكلي، فهي إذن مرتبطة بالبيئة الخارجية.

-إن بقاء النسق الاجتماعي واستمرارية وجوده وتوازنه مرتبط بتحقيقه أربعة شروط أو بعبارة أخرى عليه تغلبه على أربع مشاكل أساسية أطلق عليها بارسونز "المتطلبات الوظيفية أو الملزمات الوظيفية" تتعلق ب[5]:

1- التكيف مع البيئة وتحقيق الحاجات الطبيعية لأعضاء النسق.

2- انجاز الهدف وتوفير كل الترتيبات البنائية الضرورية لبلوغ ذلك.

3- المحافظة على النمط وإدارة التوترات الانفعالية التي يمكن ان تظهر.

4- التكامل وضمان قدر من التعاون بين أجزاء النسق الاجتماعي.

يتضح أن المتطلب رقم (1) و (2) يركز أكثر على التعامل والتوافق مع خصوصية البيئة الخارجية ومعطيات ظروفها، وبالتالي فهذين المتطلبين يتمتعان بطبيعة أدائية، تتطلب أداء مهام محددة للتكيف مع المحيط الخارجي. في المقابل يتعامل المتطلب (3) و(4) مع الحدود الداخلية للنسق وما تفرضه من ضبط لأشكال التفاعل الاجتماعي، الوجداني، الانفعالي بين الأفراد.

- حلل بارسونز التنظيم من وجهة نظر ثقافية مؤكدا على التوجيهات القيمية ودورها في توجيه السلوك، فاعتبر نسق القيم هو الوجود الشرعي للتنظيم ويحدد طابعه المعياري، وذلك من خلال توافر القواعد المعيارية المسؤولة وظيفيا عن تحقيق التكامل التنظيمي، وذلك أثناء التزام الأفراد بأدائهم لأدوارهم ووظائفهم التنظيمية "فكما اهتم فيبر بعنصر الشرعية كأساس لقيام السلطة رأى بارسونز ضرورة أن يتحلى التنظيم كنسق اجتماعي بالشرعية كأساس للموافقة والرضا والقبول"[6].

- ركز بارسونز على الناحية الثقافية التنظيمية السائدة في التنظيم، إلا أن اهتمامه كان قليل بالمستويات التنظيمية، بالمبادئ الإدارية، وبالسلطة الرسمية القانونية داخل التنظيم التي تتجاوز فكرة البناء الأخلاقي للضمير الجمعي.

- إن فكرة توازن النسق الاجتماعي معناها وصول هذا النسق باستمرار إلى تحقيق توقعات الأفراد، كما أن اكتسابه الطبيعة المعيارية تجعله يحدد الأنماط المتوقعة للأدوار الفردية ولصور التفاعل الاجتماعي، مما يساعد على ضبط التوترات ومحاربة مختلف صور الصراع.

- يتوقف تكامل النسق الاجتماعي على ميكانزمات التساند بين أجزائه، وفي هذا الإطار يلجأ بارسونز إلى توظيف الأزواج الخمس لمتغيرات النمط وهي[7]:

1- قيم النسب (من يكون الفرد؟) في مقابل قيم الانجاز (ماذا يعمل الفرد؟).

2- قيم الانتشار في مقابل قيم التخصص.

3- قيم الاصطفائية في مقابل قيم العالمية.

4- قيم العاطفة في مقابل قيم الحياد العاطفي.

5- قيم الاهتمام بالجماعة في مقابل قيم الاهتمام بالذات.

يساعد توظيف هذه الأزواج الخمس لمتغيرات النمط على تشكيل إطار معياري تحليلي لدراسة الدور في البناء التنظيمي، وفهم القيم الخفية التي تدفع الفرد داخل التنظيم انتاج سلوك محدد يتوافق مع التوقعات الفرعية السائدة لدى الوحدات البنائية المتباينة، فإذا كان من بين الأدوار الموجودة في الجامعة دور الطالب الجامعي وكان التفوق والتميز هو الذي يوجه دوره، ويساعده على انجاز هذا الدور فمعنى هذا أن المثابرة على الدراسة والمشاركة المستمرة هي التي توجهه، وإذا كان الطالب فاشل في الدراسة فإن اللامبالاة، اللالتزام، القيام بأعمال الشغب هو الذي يوجه دوره في الجامعة.

- يعتبر بارسونز التنظيم بناء غائي معياري وجوده مرتبط بتحقيق أهداف محددة.

- يؤكد بارسونز أن الاتفاق بين قيم، أهداف، سياسات التنظيم، وقيم، أهداف، وسياسات النسق الاجتماعي الكلي يساعد على إضفاء طابع الشرعية على أهداف التنظيم ويعزز مكانته في النسق الكلي للمجتمع[8]. غير أن هذا الأمر لا ينبغي أن يدفعنا إلى الوقوع في فخ الاعتقاد أن بارسونز قد ذهب إلى حد المطابقة بين التنظيمات الفرعية والمجتمع ككل، ذلك "أن التنظيمات تتميز عن المجتمع بأنها وحدات اجتماعية لديها أهداف محددة وواضحة نسبيا تسعى إلى تحقيقها، ما يفرض وجود إجراءات تنظيمية تضمن ذلك"[9]. إذن فوضوح الأهداف وتوافر الإجراءات يمنحان التنظيم طابعا يميزه إلى حد ما عن المجتمع.

- اعتبر التوازن بين كل أجزاء النسق هو الظرف الطبيعي المألوف الذي يضمنه النسق القيمي معبرا عن هذا الأخير ب "مجموعة من الأحكام المعيارية يتبناها الأفراد ويحددون من خلالها ما يجب أن يكون عليه النسق أو المجتمع الذي يعيشون فيه"[10]، طالما أن وظيفة هذه القيم والمعايير هو ضبط السلوك الإنساني وخاصة التنظيمي، فالصراع لا يعد أن يمثل سوى حالة استثنائية.

- أكد بارسونز حقيقة أن تفسير النظام الاجتماعي يتطلب أيضا فهم عوامل التغير الاجتماعي، لكنه ركز في مقاربته على فكرة التوازن النسقي، واستبعد قضايا الصراع.

- يرى بارسونز أن وظيفة التنظيم المحافظة على التعاون واستمراره من خلال اللجوء إلى ثلاث أساليب: تشجيعية تركز على تقديم الحوافز والمكافئات على الأداء الجيد، توبيخية مثل توقيع الجزاءات لمن لا يتعاون، وعلاجية من خلال توفير مجموعة من الإجراءات يمكن من خلالها القضاء على المعوقات التي تمنع التعاون وتكاثف الجهود.

       وقد كانت آراء بارسونز الوظيفية موضع انتقادات لأنها ركزت على الطبيعة المعيارية للتنظيم، وعلى القيم والأهداف الجمعية التي تحكم وتضبط سلوك الفرد ما يعني "أن الفرد مدفوع وموجه نحو العالم الخارجي من خلال أهداف النسق الاجتماعي، وبذلك تصبح مهمة الفرد مقصورة على استيعاب واستدماج لك الأهداف الجمعية التي يفرزها ويعبر عنها المجتمع"[11]، كما أغفلت أفكاره جانب مهم يتعلق بالقوة، الصراع، وتوزيع السلطة داخل التنظيم، فثمة قلة من الأفراد يملكون سلطة إصدار القرارات، والغالبية المتبقية لا تملك سوى طاعة هذه القرارات وتنفيذها.

       يعتبر البعض أن مناقشة بارسونز التنظيم كنسق اجتماعي مفتوح على بيئته يستمد منها مدخلاته In – puts  وبعد مجموعة عمليات يعرض مخرجاته Out- puts  توحي بأنه قد قدم تصورا ميكانيكيا وتحول من وظيفية معيارية تؤكد دور منظومة القيم في المحافظة على توازن التنظيم واستمراره إلى وظيفة سيبرنطقية يعتمد فيها النسق على التنظيم الذاتي والتغذية المضادة، حتى يعطي الانطباع في نهاية الأمر وكأن النسق مغلق[12].

       وقد أشار فوت هوايت إلى ثلاثة أوجه قصور في تحليلات بارسونز للتنظيم، اعتبر أن بارسونز اهتم بالعلاقات الحدية أي العلاقات بين التنظيم والمجتمع، ولم يولي اهتمام بالسلوك التنظيمي، كما تصور أن مفاهيم بارسونز لا ترتبط بالشواهد التي يمكن ملاحظتها، كما أنه تجاوز في تحليله عددا من العناصر التي يبدو أنها رئيسية لبناء نظرية عن التنظيم، كما اغفل بارسونز تأثير التكنولوجيا على العلاقات في التنظيم[13]. وبالتالي تكون جهود بارسونز قد أخفقت في صياغة بناء نظري شامل ومتكامل الأبعاد يصلح أن يكون نظرية مستوفية الابعاد لمقاربة التنظيمات.

2. روبرت ميرتون Merton

       يعتبر روبرت ميرتون من بين علماء البنائية الوظيفية، بيد أنه لم ينتهج منهجهم في استخدام المماثلة العضوية في الدراسة التحليلية للتنظيم، بل قدم تصوراً نظرياً هاماً، تمثل في تطوير نظرية متوسطة المدى. وتقوم النظرية على ثلاث مفهومات واضدادها- في تحليل التنظيم هي: (1) الوظائف الكامنة أو غير المقصودة Latent or unintended functions مقابل الوظائف الظاهرة، (2) المعوقات الوظيفيةDysfunctions  مقابل الوظائف Functions ، (3) البدائل الوظيفية Functional

alternatives مقابل الفرضية التقليدية التي تزعم أن أي مجتمع لا يستطيع أداء وظائفه بشكل أفضل مما هو قائم في ظل أنماط جديدة من العلاقات.

       من خلال هذه المفهومات انتقد ميرتون النموذج المثالي للبيروقراطية عند ماكس فيبر دون رفضه بالطبع. وقدم إسهاما متميزا في مجال فهم البناء الاجتماعي عامة، والبناء التنظيمي خاصة ما ارتبط في ادبيات التنظيم بنموذج يدور حواره الداخلي في فلك العلاقة بين التنظيم والشخصية.

       ومما يجدر الاشارة اليه فيما يتصل بنموذج المعوقات الوظيفية انه رغم قيامه على تصورات نظرية مجردة يمثل همزة الوصل بين النظريات الكلاسيكية، والمحدثة عندما قدم تصورا هاما للتنظيم البيروقراطي، يعد منهلا لدراسات إمبيريقية كثيرة تناولت التنظيم فيما بعد.

الجذور الفكرية لنظرية المعوقات الوظيفية:

       تأثر فكر ميرتون بأراء عدد من الباحثين والمفكرين امثال دي توكفيل- De Tocqueville، ديوى، وفبلين، وروبرت ميشيلز، ونقد النموذج المثالي للبيروقراطية عند ماكس فيبر[14].

       وآية تأثر ميرتون بأراء توكفيل انه اهتم بالمعوقات الوظيفية للنظام الديموقراطي داخل الولايات المتحدة الأمريكية. ومدى الخطر الذي يهدد هذا النظام مستدلا على ذلك بأمثلة كثيرة برزت من خلال تحليلات دي توكفيل لسلوكيات السياسيين المحليين وعلاقتهم بمرؤوسيهم. إضافة الى ما أشار اليه دي توكفيل من تنامي توجه الحكومة الفيدرالية نحو مركزية السلطة الأمر الذي سيهدد الاستقلال الذاتي للمحليات مستقبلا.

كما يبدو تأثر فكر ميرتون بمناقشات ميشيلز حول استبدال الأهداف من جانب قيادات التنظيم وتحكمها من قنوات الإتصال وتركز السلطة والقوة في حوزة القيادات. فنتيجة لاستقرار وتدعيم مراكز القيادات التنظيمية واكتسابها المتراكم لجوانب معرفية متخصصة ومهارات سياسية تسهم في إبعاد القادة تدريجياً عن المشكلات الفعلية للتنظيم في الوقت الذي تتجه فيه لتأمين مصالحها الذاتية والمحافظة على أوضاعها الوظيفية الهامة. وبالتالي يحدث- كما أشار ميشيلز- تحول عن الأهداف الديمقراطية للتنظيم. أيضا تأثر ميرتون بآراء دوى   Deweyواستخدامه لمفهوم "الذهان المنهي" "Occupational psychosis" وهو مرض عقلي قد يصيب الفرد نتيجة ما يتصف به سير العمل من رتابه وروتينيه. إذ يشعر الفرد بشيء من البلادة والفتور ازاء اشياء بعينها فيعف عن ممارستها، بينما يشعر بالرغبة في أداء أشياء أخرى. وقد تصل أعراض هذا المرض الى اتجاه عدد من الأفراد للتحيز ضد أشياء معينة بينما يبدون اهتماما خاصا بأشياء أخرى. وقد ينجم الذهان من جراء ممارسة الضغوط من جانب التنظيم على الأفراد للقيام بالأدوار المهنية الموكلة اليهم.

       كذلك استفاد ميرتون بمناقشات فبلين Veblen  حول اصطلاح قصور الطاقة المدربة Trained" Incapacity.rained Incapacity/اقة المدربة "" من جانب التنظيم على الأفراد للقيام بالأدوار المهنية الموكله اليهم.خرى.أخرى.ت الذي تتجه فيه لتأ". فيشير هذا المصطلح الى عدم استخدام الفرد لقدراته المكتسبة من خلال الخبرة والتدريب بطريقة سليمة في أداء العمل، من منطلق أن ما قد يكون مناسبا من طاقة تدريبيه مستغلة في أداء عمل سابق، قد لا يصبح مناسباً لأداء العمل في ظروف متغيرة. وبالتالي يؤدي عدم ملاءمة الطاقة المدربة الى ارتكاب الفرد بعض الأخطاء في أداء العمل.

نموذج المعوقات الوظيفية:

       من خلال الجمع بين آراء دوى وفبلين حاول ميرتون أن يربط بين الفعل والاستجابة لأفراد التنظيم في ظل ظروف متغيرة، واستخلص من ذلك الفكرة الرئيسية الأولى لنموذج المعوقات الوظيفية. وباختصار تنهض الفكرة الأساسية للنموذج علي ان أعضاء التنظيم يستجيبون بطريقة ثابته في المواقف المماثلة دون مراعاة للتغير بين موقف وآخر. ونتيجة لهذا الجمود وعدم المرونة في علاقة الفعل والاستجابة، تنشأ نتائج غير رشيدة. وعلى مستوى التنظيم، أوضح ميرتون أن الأفعال الناجحة في الماضي على أساس من التدريب والمهارة، يمكن أن تفسر عن استجابات غير ملائمة في ظل ظروف متغيرة.

       إضافة للجمود وعدم المرونة في علاقة الفعل والاستجابة للسلوك التنظيمي الرشيد، انتقد ميرتون قصور مناقشات فيبر بشأن الرشادة والكفاءة التنظيمية، في توضيح الحد الذي يمكن أن يبلغه التنظيم في تحقيقهما. وهذا أمر يعد غير مقبول إذ أن واقع التنظيم يقتضي وجود حدود لكل من الكفاية، والخبرة، والدقة، والصدق.

وكما ينسحب هذا القول على التنظيم ككل ينسحب على الأفراد. فعندما يمارس التنظيم انماطا من الضغط على أفراده فإنه يحدث عن قصد لضمان التزامهم بقوالب محددة من السلوك مع ضمان ولاءهم للتنظيم وتحقيق أعلى درجة من الرشادة والنظام. من هنا تبرز أهمية الضبط وحاجة الإدارة الماسة إليه حتى تضمن ثبات السلوك التنظيمي مع إمكانية التنبؤ به. بناء على ذلك فإن تحقيق المطلبين يستلزم استمرار الرقابة والمتابعة في تنفيذ القواعد الرسمية والاجراءات المقننة نظاميا، التي سوف تفضى الى النتائج التالية كما رتبها ميرتون[15]:

1- انحسار العلاقات غير الرسمية. لأن التنظيم البيروقراطي يمثل مجموعة من العلاقات القائمة بين الوظائف أو الأدوار، وتكون الاستجابة بين الأفراد على أساس الأوضاع الرسمية التي يشغلونها داخل التنظيم، ويحدث الصراع داخل التنظيم ضمن إطار محدد تماما.

2- ازدياد استيعاب Internalization أعضاء التنظيم لقواعد وتعليمات التنظيم التي تقنن كوسائل لتحقيق أهداف المنظمة ومن ثم فإن ذلك يجعل لها قيمة ايجابية مستقلة عن أهداف التنظيم ذاته. ويقصد بالاستيعاب هنا أنه في ظل استمرارية التأكيد على الالتزام بالنظام والشعور القوى به. قد يحدث تحول في مشاعر الأفراد نحو التنظيم الى الاهتمام بتفصيلات ما يقومون به من عمل وفق ما تحدده القواعد الرسمية. من ثم تتحول القواعد من مجرد وسائل الى غاية في ذاتها، ويحدث استبدال الأهداف. الذي يترتب عليه- في ظل التأكيد على الامتثال والاتباع الكلي للقواعد أن يتواجد الفرد معها مما يجعله قادرا على الدفاع عن نفسه من خلال استيعابه الجيد للقواعد وتطويعها بما يخدم تحقيق أغراضه الخاصة.

       من خلال ذلك التحليل الواعي يرى ميرتون أن البنية التنظيمية تحمل في داخلها مثيرات الخلل الوظيفي- كما تؤدي الى انخفاض الكفاءة التنظيمية. ويبدو هذا الاستخلاص لميرتون من خلال تحليله الوظيفي لبعض الخصائص البيروقراطية عند ماكس فيبر، على النحو التالي:

أ- تقسيم العمل: قد يؤدي تقسيم العمل الى ان يصبح الفرد غير قادر على معرفة ما هو الهدف الفعلي الأمثل للتنظيم، الأمر الذي يفضي الى احساس الفرد بالاغتراب ليس فقط عما يقوم به من عمل بل عن التنظيم ككل.

ب- تدرج السلطة (الهيراركية)

       تستخدم (الهيراركية) داخل البيروقراطية لتؤكد على تحكم المكتب الأعلى في المكتب الأدنى وتوجيهه من قبل المستويات الأعلى. وتؤكد (الهيراركية) على التنسيق بين الأنشطة داخل التنظيم لإنجاز اهدافه[16].

تتمثل مظاهر (الهيراركية) في تركز المعرفة الفنية والخبرة المتخصصة عند قمة التنظيم ويعد هذا الأمر مقبولا إذا تواجد التنظيم في ظروف بيئية مستقرة. أما اذا كانت الظروف غير مستقرة فقد لا تحقق الكفاءة التنظيمية في حالة تركز الخبرة المتخصصة عند قمة (الهيراركية). في هذه الحالة قد يحدث خلل وظيفي من خلال اصرار من هم في قمة التنظيم على وجوب الولاء لهم والامتثال لأوامرهم من قبل من هم دونهم في المستويات التنظيمية.

ج- القواعد المجردة

       من فرضيات نموذج فيبر المثالي للبيروقراطية، أن القواعد تتواجد لتغطي جميع المواقف الممكنة التي قد تظهر فيما بعد. وأن لكل موقف أساليبه المفروضة نظاميا بحيث تقلل من فرص اتخاذ الأفراد لقرارات غير رشيدة. الا أنه قد تظهر مواقف يطوع فيها الفرد القواعد وفقا لما تتيحه له حرية التصرف في تلك المواقف. فقد يستخدم الفرد تلك القواعد كمظلة واقية له يدافع بها عن موقفه، أو قد يلتزم بها حرفيا إذا اقتضت الضرورة ذلك. في هذه الحالة، يكون الفرد أمام ثلاث بدائل في مواجهة الموقف، البديل الأول، أن يستخدم الفرد من القواعد ما قد يناسب الموقف. والبديل الثاني ان يحيل الفرد المشكلة الى رئيسيه المباشر. اما البديل الاخير أن يبادر الفرد باتخاذ القرار- المناسب من وجهة نظره- لمواجهة الموقف. ولا يخلو التصرف الاخير- من وجهة نظر ميرتون- من حدوث معوقات وظيفيه وانخفاض الكفاية التنظيمية[17].

3.فليب سلزنيك P. Salznick

       يعتبر سلزنيك من أكبر ممثلي الاتجاه البنائي الوظيفي، وقد جاءت مساهمته مشابهة إلى حد كبير لمساهمات تالكوت بارسونز وروبرت ميرتون، يختلف عنهما فقط في أنه اعتمد في وضع نظريته على دراسة فيزيقية (أمبريقية) عكس بارسونز و روبرت ميرتون اللذان استندا إلى رؤية نظرية مجردة. وقد قدم سلزنيك تحليلا نظريا يشبه تحليل ميرتون من حيث اشتراكهما في الانطلاق من النموذج الفيبري، غير أنه في الوقت الذي اهتم فيه ميرتون بالضبط داخل التنظيمات وما يترتب عنه من نتائج غير متوقعة، نجد أن سلزنيك قد اهتم بمسألة تفويض السلطة في التنظيم وما يترتب عنه من نتائج غير متوقعة.

       وانطلق سلزنيك من أن التنظيمات هي أنساق تعاونية وأبنية تكيفية، كما اعتبر أن لكل تنظيم مجموعة من الحاجات والمتطلبات لابد من اشباعها، وتبقى عملية التكامل والمحافظة عليها هي الحاجة الأساسية التي على التنظيمات القيام بإشباعها من أجل استمرار النسق واستمراره، وتشبع الحاجة الجوهرية عن طريق اشباع الحاجات الفرعية لأجل حماية التنظيم وتأمينه في علاقته بالقوى الاجتماعية في البيئة المتواجد فيها.

       وتركز تفكير سلزنيك حول فكرة هامة، وهي أهمية البناءات غير الرسمية في البناء الرسمي التنظيمي، لما لها من آثار إيجابية. بالإضافة إلى ذلك يؤكد سلزنيك على فكرة تفويض السلطة وما يترتب عليها من نتائج غير متوقعة، وفي ذلك نجده ينطلق من قضية أساسية هي "أن التنظيم يواجه مطلب الضبط الذي تمارسه أعلى المستويات الرئاسية في التنظيم، وهو ما يفرض بالضرورة تفويض دائم للسلطة، بحيث يتخذ هذا التفويض طابعا نظاميا يترتب عليه نتائج مباشرة، كزيادة فرص التدريب على الوظائف المتخصصة واكتساب الخبرة وفي ميادين محددة، مما يمكّن عضو التنظيم من مواجهة المشكلات ومعالجتها". ويذهب سلزنيك إلى أن البروقراطية تواجه دائما الحاجة إلى تفويض السلطة لأنساق فرعية داخل التنظيم (هذا الأخير الذي يتكون من مجموعة من الأنساق الفرعية) نظرا لتعقد مهام الإدارة وتعقد مسؤولياتها. بيد أن التفويض من جهة يؤدي إلى تمييع الأهداف العامة للتنظيم، لأن وحداته الفرعية ستتجه أكثر فأكثر نحو تحقيق أهدافها الخاصة واعتبارها غايات في حد ذاتها.

       ومما يعبر عن اتجاه سلزنيك البنائي الوظيفي هو توضيحه لفكرة أن هناك نتائج وظيفية وأخرى غير وظيفية للتفويض، أي معوقات وظيفية، وعالج هذه الأخيرة بصفة مغايرة عن ما ذهب إليه ميرتون، فأوضح النتائج المترتبة عن المعوقات الوظيفية وكشف عن الميكانيزمات المعالجة لهذه المعوقات، من خلال تجربة مؤسسة التنسيفالي، التي لجأت إلى إشراك الأطراف المتعددة في عملية اتخاذ القرار، حتى يكون القرار جماعي. ويلفت سلزنيك نظر الإداريين إلى فكرة أن الأفراد[18] داخل النسق التنظيمي يميلون إلى مقاومة كل معاملة لهم باعتبارهم وسائل، وهم يتفاعلون كجماعات ويعملون على تحقيق أهدافهم وحل مشاكلهم. ومما يتضمنه البناء الرسمي من العناصر العقلانية التي تظهر في السلوك التنظيمي للأفراد، مما يتطلب وجود نسق تعاوني بين مختلف بناءات التنظيم من أجل تحقيق التوازن الداخلي والخارجي للسلوك، وتظهر الحاجة هنا إلى الجماعات غير الرسمية كأنساق ضبط غير رسمية، تساهم في انجاز الأهداف التنظيمية الرسمية.

       ومن النتائج التي استخلصها فليب سلزنيك في دراسة التنظيمات، وجود ضغوط قوية يمارسها المجتمع المحلي على بناء التنظيم وأهدافه، وهذا ما يجعل ربط العلاقات التنظيمية داخل المؤسسات بالقيم والثقافة الاجتماعية السائدة داخل المجتمع المحلي، من الضروريات النظرية إذا ما أردنا فهم وتطوير المؤسسات. كما اهتم سلزنيك بكل من الفرد والتنظيم معا واعتبارهما ككل طبيعي، واعتبار البناءات التنظيمية بناءات مختلطة لها نتائج سيكولوجية معقدة، مما يتطلب ضرورة الموائمة أو التكيف الديناميكي للمتغيرات الداخلية وعلاقاتها بالبيئة الخارجية من أجل معرفة الظروف الجديدة التي تطرأ كمشاكل تواجه كلا من التنظيم وأفراده، وتؤثر على تحقيق الأهداف العامة أو تنفيذ سياسات التنظيم.

       ويضيف سلزنيك في الأخير أن حاجات الأفراد لا ينبغي إشباعها عن طريق الفعل الواعي للأفراد، بل عن طريق النتائج غير الواقعة لأفعالهم، وهكذا تنشأ البدائل الوظيفية عندما لا نستطيع إشباع الحاجات بطرق مقبولة ثقافيا. إذن فهو يعتمد على الميكانيزمات اللاشخصية التي من خلالها تؤدي التنظيمات وظائفها أكثر من اعتمادها على الدافعية[19].

4. ألفن جولدنر A . Goldner

       يعتبر ألفن جولدنر واحد من أبرز ممثلي الاتجاه البنائي الوظيفي، ينطلق كسابقيه دائما من تحليلات ماكس فيبر، لكن هذه المرة حاول جولدنر اختبار متضمنات نظرية فيبر واقعيا، من خلال تجربة قام بها بأحد مصانع الجبس بأمريكا، التي أورد نتائجها في كتابه "أنماط البيروقراطية في الصناعة". وقد توصل جولدنر إلى التمييز بين ثلاثة أنماط للبيروقراطية:

1. البيروقراطية المزيفة: وفيها تفرض القواعد واللوائح التنظيمية من هيئات أو جهات خارجية، بمعنى أن لا دخل لإدارة التنظيم أو عماله في وضع أو تحديد القواعد التنظيمية والسياسية الخاصة بالمنظمة، والقواعد هنا لا تدعمها الادارة كما لا تحظى بطاعة وقبول العمال، وبالتالي لا يحدث صراع بين الجماعتين.

2. البيروقراطية ذات الطابع التمثيلي (النيابية): وفيها توضع القواعد القانونية بالاتفاق بين الادارة والعمال، وهكذا تحظى القواعد هنا بتدعيم الادارة وبطاعة العمال، وتؤدي هذه القواعد إلى توترات ولكنها نادرا ما تؤدي إلى صراع صريح، والتأييد المشترك للقواعد تدعمه الأفكار غير الرسمية والمشاركة المتبادلة.

3. البيروقراطية الجزائية أو ذات الطابع العقابي: تنشأ القاعدة في هذا النمط استجابة لضغط العمال أو الادارة، وبذلك الجماعة لا تساهم في وضعها، فتنظر إليها على أنها مفروضة عليها، والقواعد هنا يدعمها أحد الطرفين ويتجاهلها الطرف الآخر، مما يؤدي إلى حدوث توترات وصراعات كبيرة ومن ثم يتم تدعيم هذه القواعد باستخدام العقوبات والجزاءات، كما يتم تدعيمها أيضا بالأفكار غير الرسمية للعمال والادارة.

ويمكن تلخيص النتائج غير المتوقعة للقواعد في نموذج جولدنر في النقاط التالية:

1. إن رغبة المستويات العليا في التنظيم البيروقراطي في الرقابة على أعمال وسلوك التنظيم وأعضاء تتبلور في تطبيق قواعد وتعليمات عامة تحدد اجراءات العمل.

2. يترتب على تطبيق تلك القواعد العامة تخفيض الشعور بعلاقات القوة في التنظيم وقلة وضوح الفرق في مراكز القوة، حيث الجميع يخضع لذات القواعد.

3. بناءا على تخفيض علاقات القوة، فإن أعضاء الجماعة يميلون لقبول السلطة ونفوذ المشرفين بحكم مراكزهم وطبيعة أعمالهم، وهذا يؤدي إلى تقليل حدة التوتر والصراع في الجماعة.

4. عندما تتحقق تلك النتائج المتوقعة والمقصودة وتظهر فعاليتها في تخفيض التوتر والصراع بين جماعات العمل، يزيد الميل إلى تدعيم وتأييد تلك القواعد العامة[20].

5. أميتاي اتزيوني A. Etzioni

       تتمحور مساهمة اتزيوني حول مفهومين أساسين نادى بهما كعمليات لا مفر منها في التنظيمات مهما اختلفت، وهما ظاهرتا الاغتراب والصراع.

       "إن التقسيم الدقيق للعمل يجعل هدف النشاط خفي، والفرد الذي يصبح مجندا في مهمة ذات أهمية ليصبح مغتربا، غريبا عن عمله" حيث يؤكد على أن الصراع والاغتراب عمليتان مرغوبتان في بعض الظروف، لأنه ينطلق كذلك من فكرة أساسية هي أن التنظيم وحدة اجتماعية معقدة يتفاعل داخلها جماعات اجتماعية متباينة وكثيرة، هذه الأخيرة تشترك في بعض الاهتمامات والمصالح ولكنها في الوقت نفسه تحتوي على مصالح واهتمامات متعارضة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بطريقة توزيع الأرباح والفوائد في التنظيمات، ونفس الجماعات تلك نجدها تشترك في بعض القيم القومية وتختلف على أخرى.

       إذا فهذه الجماعات أثناء نشاطها وفقا لما ذكر. قد تتعاون في مجالات معينة أين تكون الاهتمامات والمصالح مشتركة، وتتنافس في المجالات الأخرى التي تتعارض فيها المصالح.

       فأتزيوني أميتاي يعرف التنظيم "على أنه وحدة اجتماعية يتم انشائها من أجل تحقيق هدف معين"، يشير إلى أن أكبر الجماعات التي يحدث بينها الصراع على المصالح هما جماعة العمل وجماعة الإدارة" وجهود الإرادة نحو جعل العامل يؤدي عمله. قد يجعل هذا الأخير يعيش حالة من الغربة اتجاه هذا العمل، فهو لا يملك وسائل الإنتاج، ويفتقر إلى كل فرصة للابتكار والتعبير عن الذات نتيجة لرقابة وتكرار العمل الذي يؤديه ولأن عمله أصبح لامعنى له، ولم يعد له إلا قدر ضئيل من التحكم في وقته وفي المكان الذي ينجز فيه هذا العمل، وتميز حالة الغربة هذه كل التنظيمات".

       ويذهب اتزيوني على غرار روبرت ميرتون إلى "ضرورة وجود نظريات متوسطة المدى في التحليلات التنظيمية التي من شأنها أن تجمع بين مستويات التحليل النظرية المجردة في مجال التنظيم وبين الدراسات المهتمة بحالات فردية أو ظاهرة تنظيمية واحدة، مما ينتج عن استخدام كثير من نماذج التحليل المقارنة للأنواع التنظيمية".

       وقد ركز أيضا على متطلبات التغيير المستمر التي تطرأ على التنظيمات وأشار إلى وجود صلة وثيقة بين متطلبات التنظيم ومتطلبات الأفراد، وذلك من خلال أنماط الأداء والكفاءة والفعالية والانجاز والإشباع التام لدى كل من الأفراد والتنظيم معا. كل ذلك يتم في إطار محدد ذي قواعد ضبط مميزة من أجل نجاح التنظيمات في تحقيق أهدافها وزيادة فاعليتها وكفاءتها.

       ويوضح اتزيوني أنه توجد عدة تصنيفات لعناصر الضبط الاجتماعي والتنظيمي ذات أبعاد تحليلية واضحة، فيزيقية ومادية ورمزية، تتحدد حسب الوضع الإداري الذي يشغله الفرد والمكانة التنظيمية التي يحتلها"، وتختلف أنواع الضبط حسب أنواع التنظيم سواء كانت التنظيمات معيارية أو تعبيرية أو نفعية، ولكل منها إطار من القواعد الرسمية التي تحدد عناصرها وعملياتها الداخلية"[21].

       كما هو ملاحظ ومن دون أدنى شك أن تحليلات ايتزيوني تؤكد على أهمية المدخل البنائي الوظيفي شأنه في ذلك شأن كل من تالكوت بارسونز، روبرت ميرتون، فليب سلزنيك وألفن جولدنر في دراسة التنظيمات، لكن مايفرقه عنهم إضافة إلى ما تقدم ذكره من أفكار، هو تركيزه على التحليل المقارن وإقامة النماذج التحليلية الأكثر واقعية والتي تؤدي إلى إثراء النظرية التنظيمية عموما.

       بناءا على هذا الطرح الخاص بأبعاد التنظيم عند أتزيوني فيما يتعلق باستمرار المنظمة والعوامل التي تعمل على تحقيق الأهداف وإنجازها أو تحول دون ذلك، يطرح أتزيوني كيف تكون الجماعات البشرية رشيدة على قدر الإمكان وتحدث أقل ما يمكن من الآثار الثانوية غير المرغوب فيها كما يشيع فيها أقصى قسط من الرضا؟

       وينظر اتزيوني بشكل أساسي للإجابة على هذا السؤال إلى هدف المنظمة من حيث أن أهداف المنظمة تخدم وظائف كثيرة هي:

- تعطي المنظمة فكرة محددة المعاني يمكن بها مواجهة كل الأحوال.

- تحدد لها ملامح النشاط التنظيمي.

- تعتبر أحد مكونات شرعية المنظمة التي تحدد نشاطها وتبرر وجودها.

- أن الأهداف تعد معايير بواسطتها يمكن قياس مدى نجاح المنظمة.

       وعلى هذا الأساس يتوجب علينا دراسة المنظمة من زاوية تحليل الأهداف ومتابعتها وتحديد خصائصها فالمنظمة بعد إنشائها وفقا لخدمة أهداف معينة تصبح مع مرور الوقت لها حاجات خاصة. تحاول الحصول عليها وهذه الحاجات تسيطر عليها وتحول دون تحقيقها للأهداف المعلنة في البداية، وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى طبيعة هذه الأهداف التي تتأثر بنحو معين بالأعضاء الفاعلين الذين يؤثرون بشكل ما في توجيه تلك الأهداف لتصبح الأهداف الفعلية هي الأهداف الشخصية وليس الأهداف الكلية للمنظمة ومنه يركز "اتزيوني" على ضرورة البحث عن الكيفية التي يتم بها وضع الأهداف حيث يرى أن الأهداف توضع عن طريق صراع معقد لقوي الأفراد والجماعات مختلفة داخل المنظمة وخارجها.

       وهذا الصراع تتحكم فيه عدة عوامل من أجل تحديد هدف من خطر المبالغة في قياس فاعلية وكفاءة المنظمة وإهمال الجوانب التي يمكن قياسها ومن ثم الاهتمام فيما يمكن قياسه ليصبح الهدف من المنظمة هو تحسين وتحقيق ما يمكن قياسه فقط وبالتالي التحول من هدف الأساسي إلى الأهداف الأخرى، وهنا يمكن أن يظهر خطر تحول الأهداف وهذا بعد تشويهها للتنظيم، مثل ما أكده "مشيلز" من قبل عندما رأى أن البيروقراطية هي تحول عن تحقيق الديمقراطي، وبالتالي الانفراد بالسلطة، وفي الأخير نجد تحليلات "أتيزيوني" تركز بصورة أكثر على الاهتمام بالتحليل المقارن وإقامة نظريات أو نماذج تحليلية أكثر واقعية تؤدي في النهاية إلى إثراء النظرية التنظيمية عموما "كما نجد تأثر تحليلاته بتحليلات فيبر... وخاصة في تميزها للتنظيم الرسمي واتفاقه مع آراء فيبر  على سبيل المثال لا الحصر  حول ما يعرف بالتنظيمات المعيارية وطبيعة القواعد المتبعة فيها والقواعد الرسمية وانساق الضبط والجزءات  والمكانة والسلطة والتسلسل الإداري وغيرها". والانتقاد الموجه له هو صعوبة تحديد أهداف التنظيم وتغيرها باستمرار واستبدالها، فضلا عن مشكلات قياسها وهي مشكلات لا نستطيع التغاضي عنها، لأن قياسها يسلم بوجود اتفاق عليها بين جميع الأفراد[22].

- نقد الاتجاه البنائي الوظيفي:

       أما فيما يتعلق بالانتقادات التي وجهت للاتجاه البنائي الوظيفي، فمن المآخذ الشائعة على هذا الاتجاه، هو اعتباره وصفيا أكثر منه تفسيريا، وتناوله للتنظيم نابع من أيديولوجية محافظة بتفسيره لماذا تستمر الأشياء وليس لماذا تتغير، كما أن أصحاب المدخل الوظيفي يركزون في دراستهم لعوامل التغير على مجموعة من العوامل السطحية التي لا تولد تغيرا جذريا في النسق. إضافة إلى تناوله للواقع من بعض أبعاده من دون الأبعاد كلها. كما يؤخذ على الاتجاه البنائي الوظيفي اهماله لفكرة الصراع الاجتماعي، مع أن هذا المتغير أساسي في فهم تغير وتطور المجتمعات الانسانية.

       وقد انصب تركيز هذا الاتجاه على الجوانب الثابتة من النسق الاجتماعي أكثر من الاهتمام بالأبعاد الديناميكية المتغيرة، حيث يرى أن مصدر التغير في خارج النظام الاجتماعي، وأن وظيفة النظام الأساسية هي إعادة التوازن، وعليه فإن النظام بأبنيته المختلفة مقبول كما هو، ومن هنا وصفت هذه النظرية بالمحافظة في نظريتها للمجتمع والتغير الاجتماعي فيه.

       كما يؤخذ على الاتجاه البنائي الوظيفي، أنه بالغ في محاكاة نموذج العلوم الطبيعية، وخاصة نموذج علوم الحياة، وكأن النسق الاجتماعي كائن عضوي تحكمه نفس القوانين التي تحكم حركة الكائنات الحية. اضافة إلى ذلك هناك صعوبة في اختبار كثير من المفاهيم والتصورات والقضايا التي يستند اليها الاتجاه البنائي الوظيفي في دراسة المؤسسة[23].


خاتمة

       من خلال هذه الورقة البحثية حاولت أن أعرض المقاربة البنائية الوظيفية المفسرة للتنظيم، حيث انطلق بارسونز من فكرة أن التنظيم عبارة عن نسق اجتماعي، يتكون من وحدات فرعية مختلفة، وأن هذا التنظيم يعد بدوره نسقا فرعيا يدخل في اطار نسق اجتماعي أكبر وأشمل كالمجتمع، ثم حلل التنظيم بعد ذلك من وجهة نظر ثقافية، مؤكدا على التوجيهات القيمية السائدة في التنظيمات المختلفة، ولقد أوضح بارسونز أن القيم السائدة في التنظيم هي التي تنمح أهداف هذا التنظيم طابعا شرعيا، لأنها هي التي تؤكد اسهام النسق التنظيمي في تحقيق المتطلبات الوظيفية التي يسعى النسق الأكبر (المجتمع) إلى تحقيقها، ويذهب بارسونز إلى أن هناك أربعة متطلبات وظيفية أساسية، هي تحقيق الهدف، والموائمة أو التكيف، ثم التكامل. بينما قدم ميرتون  تصوراً نظرياً هاماً، تمثل في تطوير نظرية متوسطة المدى. وتقوم هذه النظرية على ثلاث مفهومات واضدادها- في تحليل التنظيم هي: الوظائف الكامنة أو غير المقصودة مقابل الوظائف الظاهرة، المعوقات الوظيفية  مقابل الوظائف، البدائل الوظيفية مقابل الفرضية التقليدية التي تزعم أن أي مجتمع لا يستطيع أداء وظائفه بشكل أفضل مما هو قائم في ظل أنماط جديدة من العلاقات.

       أما سلزنيك انطلق من قضية أساسية هي أن التنظيم يواجه مطلب الضبط الذي تمارسه أعلى المستويات الرئاسية في التنظيم، وهذا يفرض بالضرورة تفويضا دائما للسلطة، بحيث يتخذ هذا التفويض طابعا نظاميا، ويترتب على هذا التفويض نتائج مباشرة، فهو يزيد من فرصة التدريب على الوظائف المتخصصة، واكتساب الخبرة في ميادين محددة مما يمكن عضو التنظيم من مواجهة المشكلات ومعالجتها، وتفويض السلطة يؤدي أيضا إلى زيادة نمو الوحدات والاقسام الفرعية في التنظيم، مما يترتب عليه تنوع في اهتمامات ومصالح هذه الاقسام الفرعية، ولكي يؤدي التنظيم وظائفه يتعين على هذه الاقسام أن تتعهد وتلتزم بتحقيق الأهداف التي تسعى إليها. بينما ألفن جولدنر اهتم بتوضيح النتائج المترتبة على استخدام القواعد البيروقراطية كوسيلة لضبط التنظيم. أما اتزيوني تتمحور مساهمته حول مفهومين أساسين نادى بهما كعمليات لا مفر منها في التنظيمات مهما اختلفت، وهما ظاهرتا "الاغتراب والصراع".

 



[1] - عليوة علي، الاتجاه البنائي الوظيفي في دراسة التنظيم، مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الانسانية، المجلد: 04/ العدد: 03/ أكتوبر 2019، ص: 164.

[2] - عليوة علي، الاتجاه البنائي الوظيفي في دراسة التنظيم، ص: 165.

[3] - نفسه، ص: 166.

[4] - علي عبد الرزاق جلبي، الاتجاهات الأساسية في نظرية علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، ط 2، مصر، 2005، ص: 185، نقلا عن مدخل لعلم اجتماع التنظيم والعمل.

[5] - نفسه، ص: 190.

[6] - رابح كعباش، علم اجتماع التنظيم، مخبر علم اجتماع الاتصال، قسنطينة، 2006، ص: 163، نقلا عن مدخل لعلم اجتماع التنظيم والعمل.

[7] - علي عبد الرزاق جلبي، الاتجاهات الأساسية في نظرية علم الاجتماع، ص: 76.

[8] - نفسه، ص: 88.

[9] - صالح بن نوار، فعالية التنظيم في المؤسسات الاقتصادية، مخبر علم الاجتماع والاتصال للبحث والترجمة، قسنطينة، 2006، ص: 159، نقلا عن مدخل لعلم اجتماع التنظيم والعمل.

[10] - السيد الحسين، نحو نظرية اجتماعية نقدية، دار النهضة العربية، بيروت، 1985، ص: 128، نقلا عن مدخل لعلم اجتماع التنظيم والعمل.

[11] - نفسه، ص: 129.

[12] - نفسه، ص: 127.

[13] - علي عبد الرزاق جلبي، الاتجاهات الأساسية في نظرية علم الاجتماع، ص: 88.

[14] - اعتماد محمد علام،  دراسات في علم الاجتماع التنظيمي، الناشر مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى 1994م، ص: 159.

[15] - اعتماد محمد علام،  دراسات في علم الاجتماع التنظيمي، ص: 160- 161.

[16] -اعتماد محمد علام،  دراسات في علم الاجتماع التنظيمي، ص: 162.

[17] - نفسه، ص: 163.

[18] - تريكي حسان، مطبوعة بيداغوجية في مقياس: نظريات المؤسسة (السنة الثالثة، علم الاجتماع تسيير موارد بشرية، نظام L. M. D)، ص: 29- 30.

[19] - تريكي حسان، مطبوعة بيداغوجية في مقياس: نظريات المؤسسة، ص: 31.

[20] - تريكي حسان، مطبوعة بيداغوجية في مقياس: نظريات المؤسسة، ص: 31- 32.

[21] - عليوة علي، الاتجاه البنائي الوظيفي في دراسة التنظيم، ص: 177.

[22] - عليوة علي، الاتجاه البنائي الوظيفي في دراسة التنظيم، ص: 178- 179.

[23] - تريكي حسان، مطبوعة بيداغوجية في مقياس: نظريات المؤسسة (السنة الثالثة، علم الاجتماع تسيير موارد بشرية، نظام L. M. D)،  ص: 34- 35.


تعليقات