أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

أهمية المنهج التحليلي وتطبيقه في العلوم الإسلامية

 

أهمية المنهج التحليلي وتطبيقه  في العلوم الإسلامية


مقدمة

       ارتبط تقدم البحث العلمي وتحصيل المعرفة العلمية بضرورة وجود منهج للبحث والتحصيل، فإن غاب المنهج خضع البحث للعشوائية وأضحت المعرفة غير علمية. ولو لم يستفد الإنسان من المحاولات التي قام بها تجاه أحداث الطبيعة حيث يستبعد محاولاته الفاشلة في الفهم والتفسير ويبقى على المحاولات الناجحة، لكانت عصور ما قبل التاريخ هي التي تظللنا حتى اليوم، ولضاعت معالم أي تقدم يمكن أن تحرزه الإنسانية، فالتقدم رهن بالمنهج والطريقة. ويسهل علينا أن نلاحظ ارتباط تطور العلم نظرياً وتكنولوجياً وتقدم تراث المعرفة الانسانية واتساع مجالاتها بنوع المنهج المستخدم في التحقق منهما وتحصيلهما. فما انتكست مسيرة البحث العلمي إلا بسبب النقص في تطبيق المناهج العلمية أو لتخلف أدوات تلك المناهج عن قياس الظاهرة موضوع البحث. ومن المعروف «أن المعرفة الواعية بمناهج البحث العلمي تمكن العلماء الباحثين من اتقان البحث وتلافي كثير من الخطوات المتعثرة أو التي لا تفيد شيئاً ».

      ولا يختلف العالم عن الإنسان العادي عندما يسلك طريقاً لتحصيل المعرفة إلا في أنه يتبع برنامجاً محدداً يؤدي به الى الكشف عن الحقيقة، مستنداً في ذلك الى مجموعة قواعد عامة تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل الى نتيجة معلومة. ويعمل العالم وهو مقتنع بأن ما يدرسه من وقائع ليست معطيات عشوائية، ولكن ينتظمها اطار عام كحبات العقد، ومن ثم عليه أن يحاول اكتشاف هذه الوقائع في اطار الظاهرة التي تكتنفها، وعليه أيضاً – في مرحلة تالية أن يحاول الكشف عن القانون الذي ينتظم مجموعة من الظواهر المترابطة في اطار نظرية واحدة[1] .

      وتتم مقاربة هذه الدراسة من خلال محورين:

      المحور الأول: مفهوم المنهج التحليلي.

      المحور الثاني: كيفية تطبيق المنهج التحليلي.

 

 

المحور الأول

مفهوم المنهج التحليلي

 

أولا: تعريف المنهج التحليلي وعلاقته بالمناهج الأخرى

1- التعريف بالمنهج

      لم يتوقف القرآن عند بعث الروح العلمية والفكرية في حياة المسلمين، وإنما تجاوز ذلك إلى توجيه المسلمين لطرق التفكير ومناهج البحث.

المنهج في لغة العرب:

       مأخوذ من مادة (نَهَجَ)، والنَّهْج: الطريق، ونهج لي الأمر: أوضحه، وفلان نهج سبيل فلان: سلك مسلكه، والجمع: نُهُج، ومناهج. وعلى هذا: فالمنهج في اللغة يعني: الطريق الواضح، أو الخطة المرسومة للسير عليها[2].

والمنهج في الاستعمال القرآني:

       وردت الإشارة إليه في موضع واحد عند حديث القرآن عن الكتب السابقة، وموقف القرآن منها، وموقف النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل الكتاب، حيث يقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[3]. يقول ابن عباس- رضي الله عنهما-: شرعة ومنهاجا. سبيلا وسنّة، فالمنهاج: السبيل أي الطريق الواضح، والشرعة والشريعة بمعنى واحد، وشرّع: سنّ.

المنهج في بعض استعمالات السنة النبوية:

       جاء بمعنى الواضح الذي ينبغي السير عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة...)[4]. أي يسلك الخلفاء مسالك النبي، وينهجون نهجه، ويسيرون على طريقته.

المنهج في الاصطلاح:

       ويعرف الدكتور عبد الرحمان بدوي المنهج بأنه "الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة، تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياته الفكرية، حتى يصل إلى نتيجة معلومة"[5].

       وعرفه البعض بأنه: «فنّ التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة إمّا من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، أو البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين »[6].

2-  تعريف المنهج التحليلي

       التحليل لغة: يعني التفكيك والتجزئة. اصطلاحا: يعرفه الدكتور مصطفى الناصر (تفكيك الكل الى الجزء) والمقصود التفكيك العقلي لكل الى أجزائه المكونة له، وعناصره المقيمة بشأنه مبينا طبيعة الفكر البشري الذي ينظر الى الكل، وله نظرة للأمور عامة وممارسة التحليل تمكنه من تجزئة الظاهرة ودراستها بعمق.

       إذن فهو عبارة عن منهج منطقي يستخدم في البحث العلمي. فعملية التحليل مرحلة أساسية في مجال البحوث فلكل باحث أسلوب تحليل خاص به، يبنيه بناء على تحديد مجموعة من الفرضيات التي يقوم بتحليلها من أجل بناء إطار تحليلي ملائم للظاهرة المدروسة[7].

3- علاقة المنهج التحليلي بالمناهج الأخرى

       يذكر المنهج التحليلي دائما مقترنا بالمنهج التركيبي، فالتحليل والتركيب عمليتان عقليتان تقوم عليهما معظم المناهج الأخرى. والتركيب هو اعادة تأليف الجزئيات المعرفية والعلمية وتركيبها. فهو والتركيب متلازمان، والعرض والوصف عمليتان تسبقانه والنقد والمقارنة خطوتان تعقبانه فهو انطلاقة لمراحل متتالية ومتكاملة من العمل فهو ليس غاية في حد ذاته.

ثانيا: مضمون المنهج التحليلي

أ- يسمى المنهج التحليلي لتصنيف البيانات وتبويبها الى وصف المضمون المحتوى الظاهر والصريح للمادة قيد التحليل ولا يقتصر على الجوانب الموضوعية، انما الشكلية أيضا.

ب- يعتمد على تكرارات وردت أول ظهور جمل أو كلمات أو مصطلحات أو رموز أو أشكال المعاني المتضمنة في مادة التحليل بناء على ما يقوم به الباحث من تحديد موضوعي لفئات التحليل ووحداته.

ت- يجب أن يتميز بالموضوعية ويخضع للمتطلبات المنهجية كالصدق والثبات حتى يمكن الأخذ بالأحكام نتائجه على أنها قابلة للتعميم.

ث- ينبغي أن يكون التحليل منتظما، وأن يعتمد أسس الأسلوب الكمي في عمليات التحليل بهدف القيام بالتحليل الكيفي على أسس موضوعية.

ج- يجب أن تتكون نتائج التحليل المضمون مطابقة في حالة اعادة الدراسة التحليلية لذات الأداة وللمادة (قيد التحليل) لضمان ثبات النتائج – الاتساق عبر الزمن- أو عبر تطبيقها واقتراب نتائجها من قبل محللين آخرين (التحكيم الخارجي).

ح- ترتبط نتائج تحليل المضمون مع ما ورد من نتائج وصفية وتحليلية ونظرية، بإطار عام وشامل، ليتم وفقها تفسير الظاهرة أو المشكلة، أي أنه في هذه الحالة يعد مكملا لإجراءات منهجية أخرى تسبقه أو تلحقه في إطار الدراسة الشاملة.

ثالثا: آليات التحليل وشخصية المحلل

1- أليات التحليل

- العلم الواسع بالموضوع والاحاطة به.

- التحكم في لغة البحث الأساسية.

- التمتع بفطنة وذكاء الى الأجزاء المكونة للأفكار وتكتسب هذه المهارة بالترويض والمراس.

- فسح المجال للفكر وترك الأحكام المسبقة والخلفيات.

- لا يمنع الاستعانة بالأعمال السابقة بشرط عدم الوقوع في التبعية والتقليد.

- التمرس على التفكيك والتجزئة المناسبة للموضوع.

2-  شخصية المحلل

- قوة الشخصية التي تحرر الفكر، والاستقلال

- عدم النقل وترديد الأقوال

- خلال التحليل تقاس شخصية الباحث وتبين معتقداته وتتضح قناعته

- الباحث إذا لم يحلل فهو متقدم مادة خام ويجمع المعلومات فقط[8]

المحور الثاني
كيفية تطبيق المنهج التحليلي

أولا: خطوات وأنواع المنهج التحليلي

1- خطوات المنهج التحليلي

أ- تحديد مشكلة البحث أو موضوع

ب- صياغة الفروض افتراض وجود علاقة بين المتغيرات

ت- تحديد مجتمع البحث: المادة أو المواد التي سوف تخضع للبحث والدراسة

ث- أخذ العينة: مثلا موقف الصحافة من الانتخابات

ج- تحديد رمز التحليل للعينة مثلا جريدة الخبر، الشعب، المجاهد[9]

2- أنواع المنهج التحليلي

       لا يُستخدم المنهج التحليلي بمعزل عن المناهج الأخرى؛ لذا نجد أنه يقترن في المسمى بكثير من المناهج العلمية الأخرى، وسنوضح أبرز أنواع المنهج التحليلي فيما يلي:

المنهج الوصفي التحليلي:

تتمثَّل خطوات المنهج الوصفي التحليلي في رصد الظاهرة محل الدراسة، ومِنْ ثَمَّ يشرع الباحث في توصيفها؛ من خلال المعلومات والبيانات المتاحة بشكل مبدئي، ومن ثم وضع الأسئلة أو فرضيات البحث العلمي، ثم التعمق في الدراسة، والتعرف على مسببات المشكلة، وتحليل النتائج، ووضع الحلول؛ من خلال رؤية الباحث.

المنهج المقارن التحليلي:

ظهرت الحاجة للمنهج المقارن التحليلي في تلك الفترة، والتي تتفاوت فيها الدول من حيث مستوى التقدم، ونجد أن هناك ظواهر وإشكاليات تتفاوت في حدَّتها بين دول وأخرى، وهناك من يتغلَّب عليها بسرعة، وأخرى تقبع تحت نيرانها، ولا تستطيع التخلص منها، ومن ثم يستخدم ذلك المنهج في المقارنة بين الإشكاليات في أكثر من دولة، والاستفادة من طرق العلاج التي اتبعتها الدول المتقدمة، ومن خلال التحليلات الدقيقة.

المنهج الفلسفي التحليلي:

يعد المنهج الفلسفي التحليلي أنسب المناهج في تفسير الظواهر المعنوية، ومن بين ذلك مفهوم العدل والإيمان والجمال والوجود والخير والشر، ويساهم ذلك في التوصل لأنسب التفسيرات في تلك النوعية من الدراسات العلمية.

المنهج الاستكشافي التحليلي:

يستخدم المنهج الاستكشافي التحليلي في حالة رغبة أحد الباحثين في تصميم اختراع جديد، وعماد ذلك المنهج هو التجربة والخطأ[10].

ثانيا: أهمية المنهج التحليلي وتطبيقه في العلوم الإسلامية

1- أهمية المنهج التحليلي

-       التحليل يعتبر آلية تفسيرية حيث يمكن الباحث من التعمق والاندماج في صلب الموضوع ثم التحكم فيه.

-       يوصله الباحث الى الاجابة على الأسئلة والاستفسارات التي تبدو له غامضة في أول الأمر، فيزيل غموضها ويعتمد على الأفكار المنغلقة على الفهم فيفك انغلاقها، ولدى الولوج في الموضوع وتحليله، والغوص فيه وتفكيكه يتضح المقصود منه ويتجلى للفكر ما فيه مثال: تحليل آيات القرآن الذي يعد فرعا من فروع العلوم الشرعية بما يسمى بعلم التفسير

-       ان انعدام التحليل أو ضعفه يؤدي به الى الانحراف[11].

2- تطبيق المنهج التحليلي في العلوم الإسلامية

صنف الدكتور رشدي فكار المناهج مطلقا إلى ثلاثة هي:

1- المنهج التاريخي: وقد قسمه بدوره إلى قسمين من حيث الاستعمال.

- أولا: " المنهج التاريخي كطريقة بحث ":  وهـو الذي يُعنى بالتأريخ للعلوم جميعها، عبر التساؤلات الثلاثة: كيف نشأ؟ وكيف تطور؟ ثم كيف آل؟

- ثانيا: " المنهج التاريخي كقدرة شرح ": وهذا يخص الدراسات التاريخية، وقد ميز فيه بين ثلاثة مستويات:

أ- منهج المؤرخ: الذي يعتمد على كيفية الاحتفاظ بالتسلسل والاسترسال للأفعال والأفكار عبر التاريخ، فهو منهج رصدي.

ب-  منهج عالم التاريخ: الذي يهدف إلى تصحيح التاريخ  وغربلته مما علق به من تغميض المؤرخين وتذوقاتهم وانتماءاتهم .

ج- فلسفة التاريخ: التي تُعنى ب " تعليل الواقع والأحداث الصحيحة".

2- المنهج السسيولوجي:  ويختصره في ثلاثة اتجاهات هي:

أ- البنيوية الوظيفية.

ب- الجدلية المادية.

ت- الجدلية الأمبريقية )  الواقعية ( .

3- المنهج التحليلي: وهو يهتم بدراسة العلوم التي تعتمد على قواعد وأنسقة في التحليل .

       هذا وقد اقترح الدكتور رشدي فكار، هذه المناهج الثلاثة خاصة، للتطبيق في الإسلاميات، وذلك أن (المنهج التاريخي كقدرة شرح) يمكن أن يُغطي الإطار الحضاري للمجتمع الإسلامي، منذ النشأة حتى اليوم، وأما (المنهج السيسيولوجي) -خاصة (الجدلية الأمبريقية)-  فهو صالح لدراسة (المجتمعات الإسلامية). وأما (المنهج التحليلي) فيستعمل في العلوم الإسلامية القاعدية أو النسقية. ولذلك يمكن استئناس هذا المنهج أساسا في غالبية العلوم الفقهية، والحديثية والتفسيرية، وما حول ذلك، لأنها علوم تحتكم إلى قاعدة قرآنية أو سنة، أو نسق في الاجتهاد للأئمة الأربعة .

       ولعل هذا الاقتراح الذي قدمه الدكتور رشدي فكار غير جامع، فثمة بحوث إسلامية، قد لا تجد مكانها بين المناهج الثلاثة.

       فأين نضـع (البحوث التحقيقية) مثلا؟ وهي على رأس أولويات البحث العلمي في الدراسات الإسلامية، فلا هي (تاريخية) بالمفهوم الذي أعطاه للمنهج التاريخي بجميع أقسامه، ولا هي (سوسيولوجية) ولا (تحليلية)  بالمفاهيم التي قدمها لأقسام هذه وتلك[12].

      وأين نضع (البحوث الجمعية) و(الدراسات المقارنة) و(الدراسات التاريخية السكونية)؟

      فلا منهج مما قدمه يمكن أن يستوعب مثل هذه البحوث.

- التصنيف المقترح في إطار العلوم الشرعية:

       يقول الأستاذ فريد الأنصاري: ونحن ههنا، نقترح أن تُصنف مناهج البحث في إطار العلوم الشرعية إلى أربعة مُراعين في ذلك طبيعة الدراسات الإسلامية وخصوصياتها وهـي: المنهج الوصفي، والمنهج التوثيقي، والمنهج الحواري، ثم المنهج التحليلي[13].

المنهج التحليلي:

       وهو منهج يقوم على دراسة الإشكالات العلمية المختلفة، تفكيكا، أو تركيبا، أو تقويما فإذا كان الإشكال تركيبة منغلقة، من التراث، أو الفكر الإسلامي المعاصر، قام المنهج التحليلي بتفكيكها، وإرجاع العناصر إلى أصولها. أما إذا كان الإشكال عناصر مشتتة، فإن المنهج يقوم بدراسة طبيعتها ووظائفها، ليركب منها نظرية ما، أو أصولا ما، أو قواعد معينة،  كما يمكن أن يقوم المنهج التحليلي على تقويم إشكال ما، أي نقده[14]. ويتلخص المنهج التحليلي في عمليات ثلاث قد تجتمع كلها أو بعضها في العمل الواحد وهي:

أ- التفسير: وهو عرض الأعمال العلمية، على سبيل التأويل، والتعليل وهو عمل علمي جليل؛ ذلك أن التراث الاسلامي اليوم محتاج فيما هو محتاج اليه، الى فهم صحيح لمقاصده، من خلال مصطلحاته ونظرياته، وهذا ليس بالأمر اليسير، بل إنه لمن الضروري أن تعد لذلك الرسائل، والبحوث، إذ أن تأويل قضايا التراث، وتعليلها، حتى تتضح مشكلاتها، وتنكشف مبهماتها، يعتبر من أولى الأولويات، في المشروع التراثي، بعد تحقيق النصوص مباشرة. وعليه فإنه من الممكن أن نتصور العملية التفسيرية، على مستويين: الأول بسيط والثاني مركب.

       أما المستوى البسيط فهو شرح القضايا العلمية، بتحليل نصوصها وتأويل مشتبهاتها بحمل بعضها على بعض، تقييدا، وإطلاقا، أو تخصيصا، وتعميما، لضم المؤتلف، وفصل المختلف، وإنما يتم ذلك كله، بناء على استقراء نصوص الإشكال وإحصائها، حتى تنجلي حقيقة المصطلح، شرحا وتعريفا، إذا كان الموضوع دراسة مصطلحية، أو حقيقة النظرية العلمية، أو القاعدة العلمية، إذا كان الموضوع كذلك.

       وأما المستوى المركب فهو محاولة تعليل الظواهر، بإرجاع القضايا إلى أصولها، وربط الآراء بأسبابها، وعللها.

ب- النقد: إن النقد هو عملية تقويم، وتصحيح، وترشيد؛ وعليه، فإنه لا يكون بمعنى النقض، بل هو محاكمة إلى قواعد متفق عليها، أو إلى نسق كلي.

       ذلك أن نقد فهم ما، لآية قرآنية، أو آيات أو أحاديث، أو نقد اجتهاد ما، جزئيا كان أو كليا، في أي مجالات العلوم الشرعية، إنما هو عملية محاكمة وتقويم، تهدف إلى التصحيح والترشيد من خلال بيان مواطن الخطأ والصواب. بناء على مقاييس متفق على جلها، أو كلها، كقواعد فهم النصوص الشرعية أو قواعد الاستنباط أو قواعد الجرح والتعديل... ويدخل في ذلك الأنساق الكلية للعلوم الشرعية، كالنسق الأصولي، بالنسبة للدراسات الأصولية، أي المنهج العام، المبني عليه العلم، كأصول الاستنباط، وترتيبها، هذا أيضا من المقاييس المعتمدة في[15] عملية التقويم. فبواسطة هذه الضوابط وأمثالها نستطيع أن نقول: هذا خطأ وهذا صواب.

       وبالإمكان الجمع، في المنهج التحليلي، بين طريقتي التفسير والنقد؛ وذلك بعرض الأعمال العلمية شرحا وتعليلا، ثم نقدها على سبيل التزامن أو على سبيل التراخي، والمقصود بالتراخي ههنا، أن يكون العمل النقدي، لاحقا بالعمل التفسيري، كأن يكون هذا فصلا أولا، أو بابا، أو قسما أولا، ويكون الآخر فصلا ثانيا، أو بابا ثانيا، أو قسما ثانيا، أو نحو ذلك. وأما التزامن فالمقصود به أن يندمج النقد مع التفسير، في عملية واحدة، كأن تعرض الفكرة شرحا وتعليلا، ثم تنتقد بعد ذلك مباشرة، وتناقش، لبيان الحق والباطل فيها، هكذا في كل أبواب البحث.

ج- الاستنباط: والمراد به الاستنتاج الاجتهادي، والتجديد العلمي. فكل عمل يهدف الى وضع نظرية علمية ما، أو تركيبها، أو بناء قاعدة في الفقه أو الأصول أو التفسير...، أو تأصيل فتوى، أو مجموعة من الفتاوى، يدخل ضمن الطريقة الاستنباطية من المنهج التحليلي.

       وعليه فإنه بالإمكان أن نصنف صور الاستنباط الى نوعين:

       - النوع الأول: الاستنباط الجزئي، وهو الاجتهاد المتعلق بقضايا جزئية، في أحد المجالات العلمية، على أساس الابتكار والتجديد، كالقيام ببحث يخلص فيه الى صياغة قاعدة، أو قواعد علمية ما أو وضع مصطلح، أو مصطلحات، لمجموعة من المفاهيم الجديدة المستنبطة، أو دراسة إشكال من الإشكالات النظرية، التي لم يقطع فيها بقول فصل بعد، أو طرحه لأول مرة، وإصدار رأي أو آراء حوله، بناء على الحجج، والبراهين العلمية. فمن الإشكالات التي مازالت في حاجة الى تجديد النظر والاجتهاد، مثلا في علم أصول الفقه ترتيب أدلة التشريع، وقضية (النسخ) خاصة فيما يتعلق بنسخ السنة للكتاب، وكذلك خبر الآحاد، وقيمته التشريعية، وبعض المصادر كالمصالح المرسلة، والاستحسان، وسد الذرائع، خاصة فيما يتعلق بمنهجية الاستعمال وضوابطه... أما الإشكالات المبتكرة، فكل قضية علمية لم يسبق طرقها من قبل، ثم دعت اليها حاجة حضارية، فتطرح بصيغة جديدة تماما، أو بصيغة قديمة، كما صنع الدكتور حسن الترابي في كتيبه «تجديد أصول الفقه الإسلامي» حيث قدم مفهوما جديدا للقياس سماه «القياس الواسع» بعدما أشار الى بعض عوائق «القياس المحدود» بتعبيره. هذا العمل وإن لم يرتق الى درجة البحث العلمي بمعناه الدقيق، من حيث الدراسة، فهو على الأقل طرح جديد للإشكال.

       - النوع الثاني: الاستنباط الكلي: وهو الاجتهاد المتكامل الأجزاء، الشمولي النظرة، الذي يهدف الى (تركيب)، أو (وضع) نظرية علمية. أما (التركيب) فهو جمع المادة العلمية، من التراث، وسبكها في نسق يجعل منها وحدة متكاملة، بشرط ألا تكون النظرية قد عرفت، عند أحد القدماء، أي سبق الوعي بها عنده فتحدث عنها وكتب فيها، إلا أنه لم يضعها في قالب منهجي، أو أن صياغتها المنهجية قد ضاعت ولم يبق منها إلا أمالي هنا، وهناك، يمكن جمعها وإعادة تركيبها. فمثل هذا عمل يدخل في (طريقة الجمع) من المنهج التوثيقي. أما التركيب المقصود ههنا، فهو جمع مادة علمية، لإشكال تم بحثه، في مجال علمي ما، من طرف غير واحد من العلماء، إلا أنه لم يبلغ درجة من النضج، تمكن أحد القدماء من جمع أطرافه وتركيبها. بيد أن الكثير كتب فيه ما تيسر له، مما أدى الى تراكم المادة العلمية، فإذا تبين بعد جمعها، وتفحصها، أنها مما يمكن تركيبه في نسق منهجي، وصياغته في نظرية متكاملة، ركبت ذلك التركيب وصيغت بتلك الصياغة، وأضيفت اليها اللبنات التي قد يبدو خلو مواضعها أثناء عملية البناء، حتى تستوي نظرية قائمة كاملة!

       وأما (الوضع) فهو الإنشاء الابتدائي لنظرية علمية، في مجال ما، أي ابتكارها كليا على أساس إشكال جديد. ذلك أن تطور الواقع بكل أشكاله: اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا...، وتطور العلوم المختلفة، وغير ذلك من التطورات، والتغيرات، المتعلقة بالعصر، كل ذلك يجعل من الضروري التجديد في العلوم الشرعية، جزئيا وكليا، لمواكبة حاجيات الأمة الحضارية، ولإقامة المجتمع الإسلامي السليم.

       و(وضع) النظرية العلمية، يقتضي أولا إحاطة دقيقة بالمجال العلمي الذي ستؤسس فيه، كما يقتضي التحقق من الحاجة العلمية إليها، أي أنها تجيب على إشكال حقيقي لا وهمي.

       ويقول الأستاذ فريد الأنصاري: «الوضع هو إنشاء ابتدائي» لا يعني الانطلاق من الفراغ. إذ لا شيء في العلم ينطلق من الصفر، ذلك أن وضع الأنساق النظرية، مهما كان جديدا فهو يكون بأدوات قديمة معروفة، ويحتكم الى قواعد العلم الذي وضعت فيه النظرية ويستمد مادته منه أساسا، ومن غيره من العلوم. فلنفترض أن باحثا ما عزم على وضع نظرية جديدة في منهج استنباط الحكم الشرعي مثلا فهو بلا شك سيعتمد على قواعد أصول الفقه، وضوابطه، وأدلته، ومناهج الاستدلال فيه، وغير ذلك من التراكمات العلمية، في هذا المجال، فيختار ما يختار، ويتبنى ما يتبنى، وينتقد ما ينتقد، ويتجاوز ما يتجاوز، أو ينحت ما ينحت، ويبتكر ما يبتكر، ثم يصوغ بعد ذلك نظريته تلك، ليحدد لها موضعها في حلقات الدراسات الأصولية قديما وحديثا[16]

 

 

خاتمة:

       وفي ختام هذه الدراسة سأعرض أهم النتائج التي توصلت إليها:

 

*  المنهج التحليلي هو منهج يقوم على دراسة الإشكالات العلمية المختلفة، تفكيكا، أو تركيبا، أو تقويما، فهو إذن يتلخص في عمليات ثلاث، قد تجتمع كلها، أو بعضها في العمل الواحد، وقد تنفرد إحداها ببناء البحث، وهي حسب الترتيب المنطقي للبحث العلمي: (التفسير) وقد عبرنا عنه بالتفكيك، و(النقد)، وقد عبرنا عنه بالتقويم، ثم (الاستنباط) وقد عبرنا عنه بالتركيب.

*  يقترن المنهج التحليلي دائما بالمنهج التركيبي، فالتحليل والتركيب عمليتان عقليتان تقوم عليهما معظم المناهج الأخرى.

*  لا يُستخدم المنهج التحليلي بمعزل عن المناهج الأخرى؛ لذلك يتنوع المنهج التحليلي في البحث العلمي إلى المنهج الوصفي التحليلي والمنهج المقارن التحليلي والمنهج الفلسفي التحليلي ثم المنهج الاستكشافي التحليلي.

*  تكمن أهمية المنهج التحليلي باعتبار التحليل آلية تفسيرية حيث يمكن الباحث من التعمق والاندماج في صلب الموضوع ثم التحكم فيه، وانعدامه أو ضعفه يؤدي به الى الانحراف.

 

 

 



[1] -  محمد محمد قاسم، المدخل إلى مناهج البحث العلمي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1999م، ص: 51- 52.

[2] - أبي الحسين بن زكريا بن فارس، معجم مقاييس اللغة، كتاب (النون)، والقاموس المحيط  للفيروز أبادي باب الجيم فصل النون.

[3] - سورة المائدة، الآية: 48.

[4] - الحديث بتمامه في مسند أحمد بن حنبل عن النعمان بن بشير ج3، طبعة بيروت، ص: 134.

[5] - عبد الرحمان بدوي، مناهج البحث العلمي، الطبعة الثالثة 1977 م، وكالة المطبوعات - الكويت، ص: 5.

[6] - نفسه، ص: 4.

[7] - المحاضرة السابعة- المناهج الفرعية- المنهج التحليلي، ص: 2.

[8] - نفسه، ص: 3- 4.

[9] - نفسه، ص: 4- 5.

[10] - https://www.mobt3ath.com/

[11] - المحاضرة السابعة- المناهج الفرعية- المنهج التحليلي، ص: 6.

[12] - فريد الأنصاري، أبجديات البحث في العلوم الشرعية، منشورات الفرقان، الطبعة الأولى، الدار البيضاء- ذو القعدة 1417/ أبريل 1997، ص: 63- 64.

[13] - نفسه، ص: 65.

[14] - نفسه، ص: 96.

[15] - فريد الأنصاري، أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص: 98- 99.

[16] - فريد الأنصاري، أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص: 99- 100.


تعليقات