أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

قراءة في كتاب: الفكر العربي في عصر النهضة ألبرت حوراني

 

قراءة في كتاب: الفكر العربي في عصر النهضة  ألبرت حوراني

تقديم للكتاب:

       يعد كتاب الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939 للدكتور ألبرت حوراني مرجعاً قيماً، ويضم الكتاب دراسة استقصائية تامة لتيار الفكر السياسي الحديث في الشرق الأوسط العربي، حيث يحلل المؤلف أجوبة مؤلفين معروفين ويستقصي أراءهم مبيناً كيف أن تيارين فكريين، أحدهما يحاول إعادة توضيح المبادئ الاجتماعية في الإسلام، والثاني يبرر فصل الدين عن السياسة، قد امتزجا، الأمر الذي أدى في العصر الحاضر إلى نشوء القوميات (المصرية، العربية، اللبنانية، الجزائرية...)، وبعض مواد هذا الكتاب هي محاضرات ألقاها حوراني في عدد من الجامعات العربية والبريطانية، منها: الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1956-1957م، وكلية الفنون والعلوم في بغداد سنة 1957م، ومعهد الدروس العالية في تونس سنة 1959م، وجامعة أكسفورد البريطانية سنة 1958-1959م، يتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة عشر فصلاً، حملت العناوين الآتية: (الدولة الإسلامية، الإمبراطورية العثمانية، الانطباع الأول عن أوروبا، الجيل الأول: الطهطاوي، خير الدين البستاني، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، تلامذة عبده في مصر: الإسلام والمدنية الحديثة، القومية المصرية، رشيد رضا، طلائع العثمانية: شميل وفرح أنطون، القومية العربية، طه حسين خاتمة: الماضي والمستقبل).

       حسب قول حوراني ليست الغاية من تأليف الكتاب، تدوين تاريخ عام، أو الحديث عن أفكار عبَّر عنها العرب، أو كتبت بلغة عربية خلال القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين، وإنما العناية بالفكر السياسي والاجتماعي في سياق معين، ذلك الذي أوجده التطور الأوروبي تأثيراً أو سلطةً في المنطقة العربية، في ظل النظام العالمي الحديث المنبثق من الثورة الصناعية والتقنية، ومع انتشار أفكار جديدة تتناول كيفية حياة الناس في المجتمع.

ومع تعاقب الأزمنة، غدا من الصعوبة -في نظر حوراني- تجاهل تطورات التغيير الحاصل، وعدم التحرك تجاهه بطريقة أو بأخرى، ومن دون أن تكون هناك ردات فعل متعددة، وهذا الكتاب يعالج واحدة من هذه الردات، التي تتحدد في مجابهة التحدي الذي يفرضه من جهة، قبول هذه المجتمعات بعض الأفكار وبعض مؤسسات أوروبا الحديثة، ومن جهة أخرى حاجة هذه المجتمعات للتكيف مع معتقداتها وقيمها التي تمثل أساس مشروعيتها.

ومن المؤكد في نظر حوراني أن هذا الأمر سوف يثير مشاكل من أنواع متعددة، فماذا على هؤلاء الناس أن يقبلوا؟ وإذا قبلوا هذه التحولات هل سيبقون أمناء على ما ورثوه من عقائد وقيم؟ وهل يسعهم أن يبقوا مسلمين أو عرباً؟

هذه المسائل أثيرت حولها مناقشات متواصلة وممتدة ما بين القاهرة وبيروت، وكان الهم الأساس عند حوراني، معرفة ما قيل وما كتب في هذا الشأن، ومحاولة التأريخ له.

نبذة عن المؤلف:

      ألبرت حبيب حوراني (1334-1414ه / 1915 - 1993 م)  هو مؤرخ إنكليزي من أصل لبناني متخصص في تاريخ العرب والشرق الأوسط.

النشأة

 ولد البرت في مدينة مانشستر الإنكليزية وهو ابن فضلو عيسى الحوراني وسمية الراسي (من ابل السقي)، هاجر أبويه من مرجعيون والتي تقع اليوم في جنوب لبنان، عائلة البرت اعتنقت المذهب البريسبيتاريه بعد أن كانوا اتباع للمذهب الأرثوذكسي اليوناني ولكن البرت نفسه اتبع المذهب الكاثوليكي عند بلوغه.

حاول فضلو ادراج ابنه في مدرسة عامة ولكنها لم تسمح بذلك لأنها "لا تقبل الاجانب" ففتح فضلو مدرسة صغيرة لتدريس البرت واطفال اخر من عوائل مهاجرة ودرس فيها البرت إلى سن الرابعة عشر، ثم انتقل إلى اكسفورد ودرس في جامعتها في كلية مريم المجدلية، درس في الجامعة الفلسفة والسياسة والاقتصاد والتاريخ. تخرج عام 1936 وكان الأول على دفعته.

  التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت فدّرس العلوم السياسية والتاريخ بين 1937-1939 وعاد إلى بريطانيا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية فعمل في وزارة الخارجية، ثم في المكتب العربي، كما عمل أستاذاً في مادة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد حتى تقاعده عام 1979، درس أيضا في جامعة شيكاغو وجامعة بنسلفانيا وجامعة هارفرد .

أعماله

  يعتبر كتاب «تاريخ الشعوب العربية» أهم واشهر أعمال الحوراني، وقد نشر لأول مرة عام 1991 فلاقى رواجا كبيرا، وقد ترجم كريم عزقول الكتاب ونشر من قبل دار النهار- بيروت.

  وكتابه الشهير الاخر هو «الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939» ترجمه أيضا كريم عزقول ونشر من قبل دار نوفل- بيروت، وقد حاول حوراني في هذا الكتاب إلقاء الضوء على تاريخ العرب في عصر النهضة من خلال سرد أفكار وآراء أهم شخصيات ذلك العصر كالطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني وشبلي الشميل وفرح أنطون ومحمد عبدو ورشيد رضا وطه حسين. والكتاب يعرض من خلال تلك الشخصيات الانطباع الأول لدى العرب عن أوروبا ومن ثم ولادة الحركات القومية والعلمانية والإسلامية في ذلك الزمن، ومن كتبه أيضا سوريا ولبنان (نشرت عام 1946) والاقليات في العالم العربي (نشرت عام 1947) والإسلام في الفكر الأوربي.

قراءة في العنوان:

      لعل أكثر ما أثار الالتباس في كتاب حوراني، هو عنوانه المتغير ما بين طبعتيه الإنجليزية والعربية، ففي طبعته الإنجليزية حمل الكتاب عنوان (الفكر العربي في عهد الليبرالية)، أو (الفكر العربي في العصر الليبرالي)، وفي طبعته العربية حمل عنوان (الفكر العربي في عصر النهضة)، وقد أظهر حوراني اعتراضه، وعدم موافقته على عنوان كتابه بالعربية، ونص كلامه «أود أولاً أن أسجل اعتراضي على عنوان كتابي كما ورد في العربية، ففي الأصل، أي الإنجليزية عنوانه: -The Arabic Thought in the liberal Age- والتعبير العربي –النهضة- يعطي انطباعاً مختلفاً لم أقصده، وكأن المسألة مع النهضة تبدو جديدة كليًّا، ودون مقدمات، علماً أن هناك استمرارية في الفكر العربي، لا تستطيع كلمة نهضة أن تعبر عنه، وقد وضعها المترجم مقابل كلمة Liberal والفرق شاسع»، وقبل أن ينهي حوراني كلامه، توقف مرة ثانية أمام عنوان كتابه، رفعاً للالتباس الذي حصل قائلا: «مرة أخرى لا أوافق على عنوان كتابي بالعربية، وهذا خطأ من المترجم، أما ما قصدته تحديداً بالعنوان الإنجليزي فهو الفكر العربي في العصر الليبرالي في أوروبا».

      ليس هذا فحسب، فقد أظهر حوراني ندمه حتى على اختيار عنوانه الإنجليزي، وحسب قوله: «عندما كتبت كتابي المذكور، واستخدمت عنوان:  The Arabic Thought in the liberal Age لم أقصد مطلقاً أن كل الأفكار كانت ليبرالية، ولكنني قصدت الفكر العربي في عصر الهيمنة الليبرالية الغربية، على كل فقد ندمت فيما بعد لأنني وضعت هذا العنوان».

المصادر والمراجع المعتمدة:

      لقد اعتمد المؤلف في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" على عدة مصادر ومراجع منها:

كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة"  للفارابي -كتاب "نصيحة الملوك" للإمام الغزالي- كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي- كتاب "السياسة الشرعية" لابن تيمية - كتاب "شرح إحياء علوم الدين" للمرتضي الزبيدي- كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" للإمام الغزالي- كتاب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" لطهطاوي- كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" لطهطاوي- كتاب "حاضر العالم الإسلامي" لشكيب أرسلان- كتاب "الرد على الدهريين" للأفغاني- كتاب "رسالة التوحيد" لمحمد عبده- كتاب "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" لمصطفى عبد الرزاق- كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين- كتاب "صفحات مطوية" للطفي السيد- كتاب "تأملات" للطفي السيد...

منهج المؤلف:

      نظرا لأهمية مناهج البحث العلمي في دراسة أي مؤلف سأقوم فيما يلي بتحديد أنواع مناهج البحث العلمي التي اعتمدها ألبرت حوراني في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة:

      يقدّم ألبرت حوراني في هذا الكتاب نهج سردي أكثر من كونه تحليلي لأبرز المفكرين ومناهجهم في العصر الليبرالي، حيث يعتبر مرجعاً ضرورياً لبحث التاريخ الفكري ونشأته و تحولاته في المنطقة العربية في الفترة المتناولة 1798-1939، والملفت بهذه المادة الموسّعة بأنها متماسكة و متوازنة، تعرض الفكر أو المفكر وخلفيته في ضوء الأحداث والتفاصيل التي ساهمت في تشكيله و بلورته، حتى يصل إلى نتيجته النهائية، دون إطلاق أحكام عامة عليه إلا أن تكون مستندة لأكثر من زاوية نظر وبحث، وقد استعمل حوراني المنهج التاريخي ؛ وذلك من خلال سرد الأحداث التاريخية وسرد ما طرأ على الفكر العربي السياسي من تغيرات، وقد اعتمد أيضا على المنهج المقارن؛ ويتجلى ذلك في مقارنة المؤلف للفكر العربي السياسي القائم بالواقع السياسي القديم، كما في مقارنة بين الإمبراطورية العثمانية والخلافة الراشدة، إضافة إلى المنهج الوصفي؛ ويتجلى هذا المنهج في وصف المؤلف لواقع الأمة في مختلف المراحل التي مرت منها، وذلك من خلال تتبعه ورصد للتغير الحاصل في التفكير العربي السياسي، ويتجلى المنهج الوصفي كذلك عند تعريفه ببعض أعلام الإصلاح.

أهم القضايا التي جاءت في الكتاب:

يتألف كتاب الفكر العربي في عصر النهضة من الفصول التالية:

الفصل الأول
الدولة الإسلامية

       يبدأ المؤلف كتابه في الفصل الأول بمقالة حملت عنوان «الدولة الإسلامية»، والملفت الأول في هذه المقالة أن كاتبها ألبرت حوراني يتوجه فيها إلى القارئ الأوروبي الذي لا يفقه شيئاً عن الاسلام ولا عن جذوره ومفاهيمه، ولربما فات المؤلف أن دراسات جمة وضعت في أوروبا حول هذا الموضوع وأن الأوروبيين هم على بينة من حقائق الاسلام وتاريخه رغم أن غالبية الدراسات الآنفة الذكر تنحو منحى سلبياً في تناولها للإسلام والبلاد الإسلامية، على أي حال فالمؤلف يبذل الجهد في تقديم الإسلام إلى القارئ الأوروبي، وقد وفق إلى إحاطة في الموضوع، إذ يبدوا جلياً حسب المؤلف أن أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم توصلوا إلى أن الوحي الذي بلغ إلى محمد كان الأخير، وهو يشتمل على ما فيه خير الناس أجمعين، ودون القرآن تدويناً نهائياً أيام عثمان وجمعت الأحاديث النبوية فكانت السنة، ثم تناولها علماء الحديث بالنقد (من ناحية السند والمتن)، فأقروا الصحيح منها واستبعدوا المنحول، وشكل القرآن والسنة ما يطلق عليه المؤلف نظام الخلقية المثلى، أو الشريعة التي في إتباعها من قبل المؤمن ارضاء لله وأمل في بلوغ الجنة، وقد تأتي عن نظام الخلقية المثلى مجتمع جديد وإنسان جديد، حيث أن لكل حركة من حركات العبادة طابعها الاجتماعي، وكانت الشريعة لا تقتصر على علاقة الإنسان بالله (العبادات)، بل تعنى أيضاً بالعلاقات بين الناس(المعاملات)، جاعلة منها أفعالا ذات معنى ديني، أما الوحي الذي بلغ إلى محمد فيتميز من بين: رسالة إلى العالم أجمع ولا يمكن  حصره في شعب واحد؛ وهو إلى ذلك ذو مضمون عالمي، ولا ننسى عنصراً آخر فثمة الصدق في تبليغ الوحي انطباقاً على ما يذهب إليه الحديث: لن تجتمع أمتي على خطأ، لذلك فالرسالة الإسلامية ذات مضمون عالمي وذات تبليغ أمين إلى الناس أجمعين، ويعرف المؤلف الشريعة أنها حددت ماهية العمل الصالح، كما فرضت عقوبات دنيوية معينة على العمل القبيح، فكانت الشريعة بذلك نظاماً للشرائع ونظاماً للخلقية على حد سواء، وإن مبدأ صون الشريعة والحفاظ عليها يتأتى عن وجود قائد ذي سلطة على رأس الأمة، أو بتعبير آخر يتطلب وجود سلطة سياسية تتولى الحفاظ على الشريعة، وانطلاقاً من هذا الفهم فإن تأسيس المجتمع وقيادته أصبحا جزءًا من مهمة النبي وخلفائه.

       وينتقل المؤلف إلى شأن آخر يرتبط بالحياة الإسلامية، ألا وهو مسألة التطور التاريخي، فهذه المسألة غير واردة- حسبه -  في نظر المسلمين الذين يتطلعون إلى عصر الإسلام الأول وكأنه القدوة التي يجب أن يستلهمها المسلم في بنائه للحاضر والمستقبل، والحقيقة أن المؤلف حوراني لم يذهب بعيداً في تفسير هذه المقولة حيث يختصر البحث في سطور قليلة، ومن أجل ذلك جاءت غير مستوفية لشروط الاقناع، وهذا عائد ليس إلى نظرته المفطورة  على الإبقاء على الموروث من القيم والعادات كما يقول المؤلف، بل لأن الكتاب نفسه يأمر بالسير في محاذاة التطور التاريخي للمجتمعات.

      وقد كان الشرع أساساً بنيت عليه الدولة الإسلامية، إلا أن هذا الشرع هل هو إسلامي بحت أم ثمة علامات فارقة من الخارج أدخلت عليه؟ إن حوراني يركز على الشق الثاني من السؤال، فالقيم والعادات الخاصة بالمجتمع الإسلامي الأول والمتوارثة عن مجتمعات ما قبل الإسلام، وتحديداً عن فارس وبيزنطية والجاهلية، تغلغلت إلى جسم الشرع الإسلامي، وقد جرت عملية انتقاء على هذه القيم والعادات، فرفض البعض وأقر البعض الآخر، وبهذا التطور البطيء الذي لم يكتمل قط، والذي لا يمكن بالفعل أن يكتمل أبداً، تشعبت بمثل الإسلام الخلقية العليا تلك الأنظمة الاجتماعية التي كانت سائدةً في البلدان العديدة المهتدية إليه، ونشأ مجتمع إسلامي عميق الوحدة، لكن ابتداء من القرن التاسع، أخذت وحدة الإسلام السياسية تتفكك أو على الأقل تتغير في شكلها، فأخذ جنود المرتزقة من الأتراك، الذين انتهى الامر بالخلفاء العباسيين إلى الاعتماد عليهم، يمارسون سلطة كانت تتزايد يوماً عن يوم في العاصمة ويولون الخلفاء ويخلعونهم ويتدخلون في السياسة والحكم، وأخذت تظهر في الأقاليم أسر حاكمة جديدة بقيت تعترف مبدئياً بسيادة الخليفة وتحكم باسمه، إلا أنها كانت عملياً مستقلة في حكم دويلات محدودة المساحة، ففي هذه الظروف اضطر المسلمون القائلون بوجوب سلطة الخليفة أن يشرحوا بصراحة وللمرة الأولى حقيقة الخلافة ودواعي وجودها، وكان أشهر هذه الشروح شرح الماوردي (991- 1031) في كتابه «الأحكام السلطانية» فيعرف الماوردي الخلافة بأنها ضرورة مستمدة بالأحرى من الشرع لا من العقل، فالقرآن يفرض على الناس طاعة أولي الأمر منهم، وهذا يستلزم وجود من يخلف النبي في حراسة الدين وسياسة الدنيا، مما يجعل مهام الخليفة دينية وسياسية على حد سواء: فهو يعني بالحفاظ على الدين الحنيف، وبتنفيذ الأحكام الشرعية وبحماية تخوم الإسلام وبجهاد من يرفضون الإسلام بعد الدعوة وباستيفاء الأموال الشرعية، وعلى العموم فالخليفة معني بالإشراف  على تدبير الأمور بنفسه، دون الإفراط في تفويض السلطة لغيره، وكان من واجبه أن يتحلى بصفات معينة جسدية وعقلية، وروحية، وأن يتوافر فيه أيضاً شرط خارجي: الانتساب إلى قبيلة النبي قريش، وكان عليه أن يتسلم الخلافة من غيره، إما باختيار من أعيان الجماعة، «أهل الحل والعقد»، وكان على الناس بعد توليه أن يقوموا بواجب الطاعة له، ولا يسقط عنهم هذا الواجب إلا إذا كان الخليفة فاسقاً، أو منحرفا، أو كان على عاهات جسدية تحول بينه وبين قيامه بواجباته، فبعد تدمي بغداد على يد المغول في منتصف القرن الثالث عشر استمر الخليفة عائشاً لكن كالظل في بلاط سلاطين المماليك في مصر، وقد أدى انتقال السلطة هذا إلى تغيير في المؤسسات السياسية فالدول الجديدة التي نشأت والتي كانت سلطنة المماليك في مصر أعلى نموذج لها قد اختلفت في تركيبها عن الخلافة، فالحكم فيها كان في قبضة زمرة عسكرية من أواسط آسيا أو من أصل تركي أو كردي أو قوقازي قوامها السلطان ومواليه ومحاسيبهم استولت على الحكم استيلاءاً فكان همها الأول الاحتفاظ به وبالتالي تفردت بمهمة الإشراف على الجيش وكافة الموظفين، وكانت الرابطة بين أفراد الفئة  الحاكمة هي رابطة المصلحة المشتركة وتضامن اللغة الطبيعي وان دون صلة الرحم، أما في تدبير مصالح الدولة فكانت الشرائع كناية عن أوامر صادرة عن السلطان يسهر على تنفيذها بنفسه أو بواسطة حكامة ويستمدها من اعتبارات مصلحة الدولة، وهكذا كانت الدولة في جوهرها ملكاً.

       يرى المؤلف أنه أصبح من الصعب القول بأن السلطان يستمد سلطته من الخليفة، بعد أن اتضح أن السلطان هو الذي كان في واقع الأمر ينصب الخليفة ويخلعه، ففي نظر الغزالي هو أن يكون هناك «إمام مطاع»، أما مسألة من هو ذلك الإمام وكيف يتم اختياره، فهي مسألة مهمة، لكنها تأتي منطقياً في الدرجة الثانية من الأهمية، فالإمام واجب؛ لأن نظام الدين واجب، ولا يحصل نظام الدين إلا بنظام الدنيا الذي يكفل بقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات وما أشبه. 

       وإذا اقتضى لهذين النظامين نظاماً شرعياً باتت وظيفة الإمام الجوهرية دعم هذا النظام الشرعي، ولهذا لابد أن يتوافر في الإمام شرطان: أن يكون حائزاً على أوصاف شخصية معينة، وأن تتم توليته بعهد من غيره، والتولية تصدر بحسب النظرية التقليدية، إما عن النبي أو عن الإمام السالف، أما الغزالي فقد أضاف طريقة ثالثة هي

ما يسميه «بالتفويض من رجل ذي شوكة»، هذا القول يكشف عن مصدر تفكير الغزالي وهو أن «الضرورات تبيح المحظورات»، فالإمامة  مهما كانت هي خير من «تشتيت الآراء» إذ أنه لو لم يكن من إمام لبطلت الأنكحة والأفعال الشرعية الأخرى وانعدمت الشريعة وانتفى بذلك وجود الأمة.

      إن الأمر الجوهري هو أن تكون معرفة الخير حاصلة في مكان ما من «المدينة» وفي العنصر الحاكم فيها، أما إذا كانت هذه المعرفة مفقودة كانت المدينة غير فاضلة، بل جاهلة أو ضالة في آرائها، وكانت لعناصرها المختلفة مصالح متضاربة ولم يكن لها خير مشترك يوحدها، بل كان ما يربط فيما بينها شيء آخر هو الغلبة أو العقد أو نوع من التجانس الطبيعي كوحدة العرق أو الطبائع أو اللغة.

     لم تعد النبوة في نظر الفارابي هبة مجانية من الله، بل حالة إنسانية طبيعية، وهي حال من حالات المخيلة لا من حالات العقل، فلا توصلنا إلى إدراك معرفة عامة تعجز الفلسفة عن بلوغها، وبالتالي فإن وظيفة النبي وظيفة عملية، لا بل سياسة أكثر مما هي نظرية تنحصر في تأسيس الدولة الفاضلة وحكمها، لقد عدل الفلاسفة فيما بعد بعض هذه الآراء، فابن سينا (980-1537) مثلا على ادعائه بأن الاشراق النبوي حالة طبيعية لم يعتبر هذه الحالة خاصة بالمخيلة وحدها، بل نسبها إلى العقل أيضا، لا بل رأى فيها بالحقيقة أعلى حالات العقل البشري، مهمتها الجوهرية سن الشرائع التي يجب على جميع البشر التقيد بها، أما محتوى الشريعة الإلهية فقد اعتبره ابن سينا مبدئياً في متناول العقل البشري بدون معونة إلهية، قائلا إن لم يكن هناك من نبي فمن الممكن أن ينشأ في المجتمع نظام المحافظين من السنة أكثر مما لقيت نظرة الفارابي، ذلك لأن الفيلسوفين حاولا عقلنة عملية الوحي، أي تحويل العلاقة البشرية بين المشيئة الإلهية والإرادة البشرية إلى مجرد علاقة بين عقول نظرية، ولما اشتدت المقاومة السنية لهذه الآراء غدت دراسة أقوال الفلاسفة هامشية، إن لم نقل مشبوهة مع أن نفراً من العلماء استمروا عليها كما بقيت تعاليم ابن سينا سائدة في المدارس الشيعة في الشرق، وهكذا بقي العنصر الفلسفي عالقاً بالتفكير الإسلامي اللاحق، فقد قال الفلاسفة ان الحكام يجب أن يحاسبوا على أساس نوايهم لا على أساس شرعية ولايتهم وان الأمة تستمد وحدتها من خيرها المشترك، فوظيفة الحاكم هي أن يفرض على الجميع شرائع عادلة مستمدة من أوامر الله ومستهدفة خير الجماعة الروحي والمادي.

      وعلى هذا كان حكم محمد والخلفاء الأوائل الذي أقامه الله حكماً عادلاً، لكن للخلافة قد تجزأت إلى «مماليك»، فأصبح الملوك كالخلفاء لهم الحق في أن يطاعوا، لكن عليهم أن يطيعوا الله وأن يقيموا حكماً عادلاً، وينتج عن هذا النهج كانوا حكاماً شرعيين وأنه يمكن أن يكون هناك أكثر من حاكم واحد، لا بل أكثر من إمام واحد، دون أن يؤدي ذلك إلى هلاك الأمة. فوحدة الأمة إنما هي وحدة العقول والقلوب لا وحدة الأشكال السياسية، والمسلمون إنما يشتركون في العقيدة واللغة والشريعة والهدف، فيجب تقدير جميع هذه العناصر المشتركة وتعزيزها.

      إن المبدأ المنظم للأمة هو الشريعة، وبالتالي يجب أن تفي الشريعة بجميع أغراض الحياة والحكم، وهذا يعني أنه ينبغي تجنب موقفين متطرفين: موقف الفقهاء المتزمتين القائلين بأن على الحاكم أن يسترشد بالشريعة وحدها، وموقف الحكام المدعين حق التقرير على ضوء الظروف، والمعتبرين مبدأ سلبيا لا غير... بين هذين الموقفين وقف ابن تيمية موقفاً وسطاً، فقال إن مفهوم الشريعة يجب أن يتسع كي يشمل جميع الأفعال المترتبة حتماً على وظيفة الحاكم، وصلاحية التقدير التي بدونها لا يستطيع الحاكم البقاء في الحكم رعاية خير الأمة، بذلك تعود الشريعة إلى احتلال مركزها السابق كمبدأ موجه للحكم وللأمة، فعقائد ابن تيمية كانت تشكل ضمناً احتجاجاً على الفوضى والعقائد الوثنية لدى البدوي العربي الذي لم يعرف قط الإسلام على حقيقته، ولدى الجنود الأتراك أيضاً، من هنا كان ذلك الخط الفاصل الذي رسمه مجدداً للتمييز بين الجاهلية والإسلام بين العصبية والتضامن الديني، وقد بقيت هذه المفارقات قائمة لدى مفكر آخر، آتى بعده بقليل ومر بخبرة مماثلة، إلا أنه كان على اقتناع أشد بتعقد الطرق التي يمكن بها الجمع بين النقيضين، كان ابن خلدون (1333-1406) متنبهاً كابن تيمية إلى تحدي البدو للحياة الحضرية والمتمدنة، غير أن ابن خلدون كان يعتقد أيضاً أن لهم دوراً آخر يقومون به، فهم إذ يهدمون العمران يبنون الدول، وقد شغلته مسألة كيفية الاستيلاء على الحكم الصالح التي هي العمران أو حياة المدن، فهو يعترف كل الاعتراف بالدور الجوهري الذي يلعبه الخير العام والشريعة الالهية في الحفاظ على استقرار الدول وازدهارها؛ إلا أنه يعتقد بضرورة عنصر آخر لنشوء الدول، هو عنصر التضامن الطبيعي القائم على أواصر الدم أو على شيء  مماثل لها، والمستهدف استلام الحكم؛ وهو ما يسميه بالعصبية التي هي أقوى لدى البدو منها في أي مجتمع بشري آخر، فالعصبية كفكرة مجردة قد تكون النقيض الخير العام المستمد من الشريعة المنزلة، لكن ابن خلدون كان يرى أن لا إمكانية لنشوء الدول المستقرة مالم يتضافر الخير العام والشريعة مع العصبية بشكل من الأشكال، وأن هذا التضافر قد يتم على مختلف الوجوه، وعلى هذا أقام سلماً لأنواع السلطة، يتدرج من «الملك الطبيعي» القائم على العصبية والمستهدف خير الحاكم، مروراً «بالملك السياسي» المسترشد بالنظر العقلي والمعتمد مبادئ العدل الطبيعي لتحقيق خير الحاكم أو خير المحكومين، ثم ينتهي بالدولة القائمة على مبدأ الشريعة الإلهية المنزلة المستهدف تأمين المصالح الآخروية والدنيوية معاً، وهذا النوع الأخير هو أعلى ما يمكن تحقيقه من أنواع الدولة، مادامت «مدنية الحكماء الفاضلة نادرة أو بعيدة الوقوع»، يبين ابن خلدون أن هذه الأنواع مترابطة نشوئيا ومنطقياً على حد سواء، فالواحد منها ينزع إلى النشوء عن الآخر بتعاقب منتظم.

      هذه هي «أعمار الدول» أو المجرى الطبيعي لحياة الأسر المالكة، لكنه من الممكن وقف هذا المجرى في أي وقت من الأوقات بإدخال عامل آخر فيه، هو الشريعة الدينية التي أتى بها الأنبياء، إن هذا العامل لا يستطيع بحد ذاته أن ينشئ الدولة، إلا من شأنه أن يقويها إذا ما أضيف إلى عصبية موجودة من قبل، إذ يمدها بالقوة الضرورية لتأسيس دولة مستقرة وثابتة. 

الفصل الثاني
الإمبراطورية العثمانية

       كانت الإمبراطورية العثمانية بمعنى من المعاني، وريثة التطور الإسلامي السياسي بمجموعه، فقد كانت قبل كل شيء ملكية عائلية بولائها المقتصر على الشخص، أو على مجموعة من الأشخاص أي على أسرة، بعد أن استوت الأسرة الحاكمة ثابتة على عرشها كانت في الأصل مؤلفة من أتراك أحرار المولد ومن مسلمين متحدرين من سلالات أخرى استتركوا، وعلى يد هؤلاء تمت فتوحاتهم.

      فقد برزت الإمبراطورية إلى حيز الوجود كدولة محاربة غمار الجهاد على الحدود البيزنطية، بحيث تمت فتوحاتها الأولى على حساب الإمبراطورية المسيحية، لم يكن الدين المحرك لسياستها الخارجية، إذ أنها تحالفت كما تحاربت مع الدول المسيحية؛ إلا أن الصراع مع المسيحية هو ما حرك لنجدتها أولئك المتطوعين من الشعوب الإسلامية الأخرى الذين ذابوا مع الزمن في جسم الفئة العسكرية التركية، بعد أن اتسعت الإمبراطورية وخاصة بعد أن استولت على مراكز الدين السني في مصر وسوريا، وجابهها عداء الشيعة المتمركزين في دولة الصوفيين في بلاد فارس، لكن تمسكها هذا إنما كان بالسنة كما وصلت إليها نتيجة لتطور الأمة الطويل بكامله، وكانت الدولة ترعى المدارس الخاصة بتلقين العقائد السنية، وتنشئ مدارس جديدة في اسطنبول كما كانت تختار عدداً وافراً من الموظفين من بين المتخرجين منها، يقول العلامة سيد مرتضي الزابدي (1732-1891) إن الخلافة إنما تنال بالاستحقاق، أما السلطنة فالبقوة وإذا كان للخليفة فضلاً عن الاستحقاق قوة عصبية تدعمانه، كان له أن يحكم وإلا وجب أن يحكم السلاطين والأمراء باسمه، والواقع أن الخلافة لم تستمر بعد فتح المغول لبغداد إلا بالاسم، ثم «احتل أصحاب السلطان الأرض واختفى اسم الخلافة»، ومع أن السلطان لم يكن خليفة فإن الزابدي لم يلمح ولو تلميحاً إلى أنه ليس على المسلمين واجب الولاء والإخلاص الديني له، فقد كان السلطان يدافع عن التخوم ضد النصارى والشيعة، ويحمي الأماكن المقدسة، ويخضع في جميع أعماله وأحكامه خضوعاً مبدئياً للشريعة، وكان المذهب الحنفي من بين مذاهب الشرع الرئيسية الأربعة المقبولة، المذهب الوحيد المعترف به رسميا من جانب الدولة، كان العثمانيون أول من أعطى المحاكم الشرعية شكلها النظامي، وأخضع موظفيها لتنظيم رسمي، فالقضاة الذين يقضون، بالشرع والمفتون، والأساتذة، وحتى موظفو الجوامع، كانوا كلهم منتظمين في هيئة رسمية لها رتبها المعروفة ونظامها التدرجي، وكانت هذه الهيئة تشكل بالفعل جزءًا جوهرياً من جهاز الحكم، إلى جانب الهيئتين العسكرية والإدارية، وكان أفرادها يقومون بالواقع بدور ضروري، كصلة معنوية وإلى حد ما، كصلة إدارية، بين السلطان ورعاياه، خاصة في الولايات الإسلامية العربية، فالسلطان لم يفرض على الإمبراطورية حكماً واحداً، بل رتب مختلف الطبقات والعناصر فيها ونظمها بشكل يضمن لها العيش بسلام ويسمح لكل منها بالإسهام كما ينبغي في استقرار المجموع وازدهاره.

      ينتقل حوراني إلى التأريخ للإمبراطورية العثمانية، ليلاحظ أن هذه الامبراطورية تتشكل من مجموعة جماعات وليس من جماعة واحدة، وكل جماعة كانت تفرض على أعضائها الولاء المباشر لها، وهذه الجماعات كانت إقليمية أو دينية أو مهنية أو خليطاً  من الثلاث، أما الانقسام فيما بينها فقد كان انقساماً كيانياً بين العسكر والرعية، أي انقساماً بين الحكام والمحكومين، كما كان انقساماً بين المسلم وغير المسلم، كانت الدولة قبل كل شيء دولة إسلامية سنية، وكان جميع المسلمين السنيين دو سواهم ينتمون انتماءاً تاماً ومتساوياً إلى جسم الجماعة السياسي، وذلك بصرف النظر عن العرق أو اللغة، وكانت هناك جماعات إسلامية أخرى، كالشيعة التي كانت تقطن ما هو الآن تركيا والعراق ولبنان واليمن إلا أنه كان ينظر إليها شزراً نتيجة قرون طويلة من الحقد المذهبي، ونتيجة تجانسها الديني مع بلاد الفرس الشيعية.

      لقد كانت الإمبراطورية قبل كل شيء امبراطورية مدن ورثت عن مجموع ماضيها الإسلامي العداء الحضري للبدو، معرقلي التجارة والزراعة وأعداء العمران والمرتع الأخير لعادات عصر الجاهلية الوثنية، وكانت الإمبراطورية تتسع وباتساعها تضم بشكل مبعثر ولايات جديدة كبرى وصغرى، وماحل القرن السادس عشر حتى تم الاعتراف بنظام الولايات واستقر على الشكل الذي استمر قائماً في جوهره حتى القرن التاسع عشر، وقد قسمت الإمبراطورية إلى ولايات يحكم كلاً منها حاكم أوباشا من رتب متفاوتة، مسؤول مباشرة أمام الحكومة المركزية، وكان هناك مع بعض التغييرات من وقت إلى آخر، أربع ولايات في ما هو الآن العراق: البصرة وبغداد والموصل وشهريزور؛ وأربع في سويا الجغرافية: حلب ودمشق وطرابلس وصيدا؛ واثنتان في غربي الجزيرة العربية: الحجاز واليمن؛ أما في الولايات البعيدة، فلم يمض زمن طويل حتى مالت كفة الميزان إلى ترجيح العناصر المحلية على العناصر المركزية.

      لم تعترف الحكومة العثمانية، ولا أي دولة إسلامية بالتفرقة العنصرية بعد تلاشي التمييز الأول بين العرب وبين معتنقي الإسلام من غير العرب، وقبل نشوء القومية الحديثة، إلا أنه كان هناك بعض التمييز في وظائف اللغات، بحيث كانت اللغة التركية لغة الحكومة والجيش، واللغة العربية لغة الدراسة والشريعة، واللغة الفارسية لغة الآداب، فالنبي كان عربياً، والقرآن نزل باللغة العربية، والبدو الاعراب كانوا «مادة الاسلام»، أي وسائله البشرية لفتح العالم.   

الفصل الثالث
 الانطباع الأول عن أروبا

       خصص المؤلف هذا الفصل للحديث عن أسباب التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية، ففي بداية القرن السابع عشر، كانت السلسلة الطويلة من السلاطين الأذكياء والأقوياء قد انتهت، وتلاها عهد ضعفاء الخلق والذكاء من السلاطين؛ فكانت النتيجة أن نشأ صراع على النفوذ بين فئات الموظفين وقواد الجيش ومع نساء القصر وعبيده. وفي أواخر القرن السابع عشر، أوقف التيار المنحدر وزراء أسرة كوبرولو، بنقل محور السلطة من السلطان إلى كبير الوزراء، أو الصدر الأعظم... فقد كانت الادارة، في عهد الاضطراب والتشويش، قد أصابها الخلل، وفقد نظام جباية الضرائب فاعليته ونزاهته، وانهار نظام تملك الأراضي القديم، كما أخذ الجيش يفقد انضباطه تدريجيا، لو لم يكن أساس النظام الخلقي قد زال أيضا. فقد ضعفت العصبية المهنية لدى نخبة العبيد، ولدى العلماء، وانحل الانضباط الصارم والولاء الخالص لدى الانكشارية، كانت الامبراطورية تجتاز أزمة اقتصادية تجمعت عناصرها منذ زمن طويل، إلا أن سببها الحقيقي كان خارجياً، يعود إلى توسع أروبا الجغرافي شرقاً وغرباً، وكان اكتشاف أروبا الذي أدى إلى تحول الذهب والفضة إلى بلدان البحر المتوسط، وبالتالي إلى ارتفاع الأسعار، مما زعزع مالية الدولة وأنزل الضرر بالطبقات المنتجة، وكانت النتيجة أن ازدادت الضرائب وتقهقرت الزراعة والحرف وجلا السكان عن الأرياف.

      ولم تواجه الامبراطورية العثمانية، خلال تاريخها، تهديداً حقيقياً لوجودها، إلا أن الحال تغير إبان القرن الثامن عشر. في بداية هذا القرن بدأت التهديدات الخارجية تذر بقرنها، فعلى حدود الامبراطورية الصحراوية نشأت حركة  إصلاحية استهلت تفكيرها من المذهب الحنبلي فأعلن صاحبها محمد بن عبد الوهاب (1703-1787) أن الاسلام ليس فناً قولياً، بمعنى أنه ينبغي ألا نتوقف عند الأقوال وحسب، بل المطلوب هو معرفة كنه الإسلام الحقيقي.

      من المعتقدات الوهابية أنها ترفض جميع الآلهة ماعدا الله، وترفض إشراك سواه في التعبد الذي لا يجوز إلا له.

فالشرك (أو الاشراك) شر مهما كان موضوعه سواء أكان نبياً أم ملكاً أم سلطاناً، والتعبد للأتقياء شر كعبادة الأوثان. والوهابية تعترض على تلك البدع اللاحقة التي أدخلت في الاسلام آلهة جديدة، منها تطور الفكر الصوفي وعقيدته في وحدة الوجود وإعراضه عن الدنيا، وطقوسه التي لا تمت بصلةٍ إلى القرآن. والوهابية لم تغال في إكرام محمد رغم إحاطتها إياه بالإجلال والتعظيم كنبي. وحقيقة ما ذهب إليه ابن عبد الوهاب أن الاسلام الذي يحيا في كنف السلطان ليس بإسلام حقيقي، وهذا يعني ضمناً أن السلطان ليس الامام الحقيقي للأمة، وبالتالي تحالف مع أسرة حاكمة صغيرة في أواسط الجزيرة، أي أسرة ابن سعود، على إقامة دولة يمكن للمسلمين أن يحيوا فيها الحياة الصالحة وفقاً للشريعة كما يفهمانها.

     إن التنظير الوهابي القادم من الصحراء كان مثابة تحد للسلطنة العثمانية التي كانت تأخذ بالسنة الإسلامية، ليس كما فهمها السلف بل كما هي عليه، وبما جدَّ عليها من تطورات.

     الخطر الثاني الذي واجهته الامبراطورية، والذي لا يقل أهمية عن الأول هو الثورة العلمية في أروبا، وما انبثق عنها من قوة عسكرية واقتصادية. وإذا وضعنا جانباً الخطر الأول الذي حملته من رمال الصحراء الحركة الوهابية، فإن الثورة العلمية في أروبا شكلت الهاجس لدى ما يمكن أن نسميه «الانتلجنسيا» في الامبراطورية.

الفصل الرابع
 الجيل الأول (الطهطاوي- خير الدين- البستاني)

     في عام 1860 انشأت نخبة من الرجال المثقفين الذين أدركوا بأن الاقتداء ببعض الصيغ الأوروبية في بناء الدولة والمجتمع، إنما يشكل مهمةً ملحة في سبيل إصلاح الامبراطورية التي تعاني من تخلف وفساد، ففي مصر برز اسماعيل باشا الذي تسلم العرش عام 1861، و في تونس لعب خير الدين دورا بارزاً في هذا الاتجاه، وقد احتل مكانةً مرموقةً بين الشباب التونسي، وفارس الشدياق وبطرس البستاني في لبنان. إلا أن الأبرز بين هؤلاء كان رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873) .

     كانت تؤرق هذا الرجل مجموعة من المساءلات الحادة  منها: ما هو المجتمع الفاضل؟ وماهي القاعدة التي يجب أن تهيمن على عملية الاصلاح؟ وهل من الممكن استنباط هذه القاعدة من مبادئ الشريعة الاسلامية؟ أم أنه من الضروري الالتجاء إلى أوروبا الحديثة و سلوكها؟ وهل هناك تناقض فيما بين الاثنين؟

حاول بعض دعاة الإصلاح من أمثال صادق رفعت باشا، وشيناري، وضياء باشا، ونامق كمال ، تبرير تبني المؤسسات الغربية، بمفاهيم اسلامية، معتبرين ذلك التبني عودة إلى روح الإسلام الحقيقية؛ إذ هم يعتقدون أن النظام البرلماني الحديث ليس سوى بعث لنظام الشورى الذي كان قائماً في فجر الاسلام، وأنه الضمانة الوحيدة للحرية، وهذا ما أدى بهم إلى الاصطدام بالحكومة التي، على تأبيدهم إصلاحاتها، انتقدوا طابعها الاوتوقراطي، وفي منتصف الستينيات أقدموا هؤلاء المصلحون على خطوة أكثر جرأة، وهي القيام بأول محاولة لتنظيم حزب سياسي "الشباب العثماني" في اسطنبول أولاً، ثم نقلوا مركزه إلى باريس، لكن الحزب انحل بعد1871، عندما سمح لزعمائه بالعودة من المنفى، وبالتالي فهذه النخبة من المصلحين ظهرت متأثرة بالفكر الليبرالي لكنهم كانوا أيضا مسلمين أتراكاً  يحبون وطنهم. وفي القاهرة، نشأ فريق آخر على نهج من التفكير مماثل، امتزجت فيه الليبرالية الاسلامية العثمانية بشيء آخر، إلا أن هذا الشيء الآخر كان هنا محبة الوطن المصري. وكان أول كاتب حلل فكرة الأمة المصرية وحاول شرحها وتبريرها، استناداً إلى اعتبارات إسلامية، رفعت بدوي رافع الطهطاوي.

       إن تأثير باريس على هذا الرجل كان بالغاً، فالأعوام الخمسة من 1826 إلى 1831 التي قضاها هناك أحدثت تحولاً كبيراً في تفكيره وفي التفكير المصري من خلاله، ومع أنه جاءها كإمام لا كطالب.

      ويمكن أن نوجز أفكار الطهطاوي على الشكل الآتي: إنه باستطاعة الشعب، بل يجب على الشعب أن يشترك في عملية الحكم، والواجب تأهيله لهذه الغاية، إن الشرائع يجب أن تتغير مع تغير الظروف الجغرافية في تكوين الشرائع، إذ الصالح منها اليوم قد لا يكون صالحاً غداً. إن انهيار الدول وقيامها يعودان لأسباب محددة تكمن فيما يسميه "روح الأمة"، ومحبة الوطن أرقى الفضائل السياسية.

     قبل كل شيء يجب أن نعتبر أن الطهطاوي كان مفكراً إسلامياً، إلا أنه مفكر من طراز خاص، يقول ألبرت حوراني ( لقد كان باب الاجتهاد مقفلاً، وكان الطهطاوي صاحب الخطوة الأولى في فتحه)، يؤكد الطهطاوي أن لا فرق بين مبادئ الشرع الاسلامي ومبادئ "القانون الطبيعي" التي ترتكز إليها قوانين أروبا الحديثة، ويمكن تقديم تفسير للشريعة الإسلامية تفسيراً يتفق مع حاجات العصر الراهن، وقد أجاز للمؤمن في ظروف معينة أن يفسر الشريعة معتمداً على مذهب شرعي غير مذهبه. وقد اعتمد هذا المبدأ كتاب لاحقون لإنشاء نظام حديث وموحد للشريعة الاسلامية في مصر وغيرها.

     وقد أولى الطهطاوي عملية تفسير الشريعة اهتماماً خاصاً. فواجب العلماء- باقتراحه- أن يفسروا الشريعة على مقتضى الحاجة، أن يتعرفوا إلى العلوم التي أنجبها العقل البشري، وهو يؤكد أن الفلسفة والعلوم العقلية بقيت حية في العالم الاسلامي حتى فترة قصيرة خلت.

       لكن هناك ولاية في الامبراطورية جرت فيها إصلاحات مماثلة أثارت اعتراضات مماثلة، فقد كان "عهد الأمان" في تونس إعلانا لمبادئ قانونية وسياسية جديدة، ولذلك طرح على بساط البحث مسألة الشرعية، وكانت هذه المسألة نقطة الانطلاق لدى المفكر خير الدين باشا (1810)، فدخل في خدمة أحمد، باي تونس، وتلقى تربية دينية وعصرية معاً، وتعلم اللغة الفرنسية، فضلاً عن العربية، وفي 1852 أرسل إلى باريس لمعالجة قضية صعبة تتعلق بدعوى أقامها وزير سابق على الحكومة. وبقي هناك أربع سنوات، كانت له كما كانت للطهطاوي، حقبة تثقيفية. فكان يراقب حياة مجتمع سياسي كبير، ويطبق ذهنياً على عالمه ما كان يتعلمه هناك، وبعد عودته إلى تونس عين وزيراً للبحرية، وكان عضواً في اللجنة التي وضعت نص دستور 1860، ورئيسا لمجلس الشورى، مع الاحتفاظ بمركزه كوزير، مما يدل على ثقة الباي به، بحيث بعثه إلى اسطنبول ليعلن خلافته ويلتمس وثيقة التنصيب التقليدية وإقناع الباب العالي بالاعتراف بالحكم الذاتي لتونس وبحق الأسرة الحسينية الوراثي، مقابل اعتراف الباي بسيادة السلطان ودفع الجزية له، لقد أخفقت كل التجارب التي خاضها خير الدين سواء الديبلوماسية أو الدستورية، وبالتالي انعزل الحياة السياسية ليعود فيما بعد بصفته رئيس الوزراء، واحتفظ بهذا المركز لمدة أربع سنوات مستخدماً إياه لإجراء إصلاحات عدة: تحسين الأساليب الاجرائية في الادارة وإعادة تنظيم الأوقاف والقواعد الإجرائية في المحاكم الشرعية، وتحسين المدن، وإصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وتعزيز مطبعة الحكومة وتوسيعها، وإنشاء مكتبة وطنية، وتأسيس مدرسة "الصادقية" الحديثة لتعليم اللغات والعلوم الحديثة، إلا أنه واجهته عراقيل مرة أخرى تتمثل أساسا في صراع الدول على النفوذ ورغبة الباي في الاحتفاظ بسلطته، وبالتالي انتهج خير الدين سياسة الإبقاء على التوازن بين الدول الثلاثة التي كانت لها مصالح في تونس: انكلترا و فرنسا وايطاليا، وذلك بمحاولة عدم التنازل إلى أي منها أكثر مما ينبغي، من جهة، وعدم إغضاب أي منها كلياً، من جهة أخرى، إلا أن انتهاج سياسة التوازن هذه من قبل دولة ليس لها قوة من ذاتها، هو أمر خطر ودقيق. لذلك خسر خير الدين في آخر الأمر تأييد الجميع؛ فقد شجع في بادئ الأمر المشاريع البريطانية، ثم الفرنسية، وعندما وقعت الحرب الروسية التركية وجد نفسه في مأزق حرج، فقد كان القنصل البريطاني يريد من تونس أن تدعم سيدها السلطان، بينما كانت الدول الأخرى لا تريد ذلك فمال خير الدين نحو الانكليز ميلاً كان كافياً لإغضاب الفرنسيين، إلا أنه لم يكن كافياً لإرضاء القنصل وود، فخسر بذلك الدعم الأجنبي، وأصبح عاجزاً عن الوقوف في وجه الباي، الذي كان قد نقم عليه لسعيه في سبيل الحد من السلطة الملكية، بذلك انتهت حياة خير الدين السياسية في تونس، فبدأ حياة سياسية جديدة في القسطنطينية، إذ دعاه إليها السلطان الشاب عبد الحميد، الذي كان قد اطلع على كتابه واكتسب بعض النفوذ لديه بحيث عينه صدراً أعظم غير أنه واجه نفس المشاكل التي واجهها في تونس: الفوضى المالية، والصراع على النفوذ بين الدول الكبرى، ورغبة السلطان في الاحتفاظ بسلطته المطلقة، وحاول خير الدين في ظل هذه الأوضاع فرض برنامج إصلاحي على السلطان، فينقلب السلطان عليه، واستطاع أن يتخلص منه في 1879. فعاش في اسطنبول في شبه عزلة، رغم ذلك  فقد ظل يحمل هم الاصلاح حتى في عزلته هذه بحيث حاول أن يسجل تصوره للإصلاح في الكتب التي خلفها؛ إذ يرى أن على الدولة الإسلامية إذا هي أرادت أن تكون قوية أن تقتبس الأفكار والمؤسسات من أروبا، وإقناع المسلمين المحافظين بأن ذلك ليس مخالفاً للشريعة بل منسجماً مع روحها؛ فليس على الدولة الإسلامية أن تتبنى الدين المسيحي، بل عليها فقط أن تتبنى ما يعادل المؤسسات الإسلامية القديمة من مؤسسات حديثة، مثلا مسؤولية الوزير لا تختلف كثيراً عن الفكرة الاسلامية عن الوزير الصالح، الذي يسدي النصح بدون خوف ولا تملق، كذلك البرلمانات والصحافة، فإنها هي معادلة "للمشورة" في الاسلام، وعلى هذا لا يكون تبني المؤسسات الأوروبية بالحقيقة إلا تطبيقاً لروح الشريعة وتحقيقاً لغايتها.

الفصل الخامس
جمال الدين الأفغاني

      وينتقل حوراني في هذا الفصل إلى مفكر إسلامي بارز آخر هو جمال الدين الأفغاني(1839-1897). لقد هجس الأفغاني دائماً بفكرة الوحدة الاسلامية، وكان يمازج هذه الفكرة شعور ديني ووطني وراديكالي أوروبي، لكن تفكيره انصب، ليس على الشأن السياسي البحث، بل ثمة قضية كانت تؤرقه وهي: كيف يمكن إقناع المسلم بفهم دينه فهماً حقيقياً، وأن يعيش وفقاً لتعاليمه؟

      فقد رأى أن فهم المسلم لدينه والتقيد بالشريعة الإسلامية يحفزانه على جعل بلاده قوية، وهي لا تقوى إلا به، في الوقت نفسه كان اعتقاد الأفغاني أن تفوق الدول الأوروبية لم تكن بالفطرة أقوى من الدول الإسلامية، وأن الفكرة السائدة عن تفوق انكلترا على غيرها لم تكن  سوى وهم خطر وأحد مرتكزات هذا الوهم جعل الناس جبناء فيقع عليهم ما يخشون وقوعه، لذا فإن استفاقة المسلمين من غفلتهم سوف توضح لهم بأن قوتها مصطنعة ووهمية، وقد جد هذا (العبقري البري الذي  يستحيل ترويضه) وهو لقب أطلقه عليه أحد أصدقائه الانكليز، جد آراءه ومعتقداته في النشرة التي كان يصدرها بعنوان "العروة الوثقى"، ويمكن أن نلمس في تفكير الأفغاني معنى مستحدثاً، فالإسلام ليس دينا فقط وإنما هو مدينة أيضاً، كما أن غاية الانسان في وجوده ليس عبادة الله وحسب وإنما ابتكار مدينة إنسانية مزدهرة في كل نواحيها، وفي هذا الصدد يقول مؤلف كتاب "الفكر العربي في عصر النهضة": "كانت بالحقيقة فكرة المدينة (عند الافغاني) من بذور الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، وقد دخلت العالم الإسلامي خصوصا بواسطته"، ولكن كيف يرى الأفغاني إلى النهوض بالأمة وبعث الروح فيها؟ هذان النهوض والبعث يتحققان بأمرين:

 1- التطوير الاجتماعي، أي زيادة القوة الاجتماعية والرفاهية.

2- والتطوير الفردي، أي تطوير مواهب الانسان ومشاعره وأفكاره.

   ويستنتج الأفغاني، أن خلاص الأمة لن يأتي على يد الحكام وحدهم، وليس هناك من طريق لإحياء الإسلام، وما الصحف والمدارس وحدها بكافية لتحقيق هذا الهدف، مع أن بإمكانها أن تساعد على رفع مستوى الخلقية العامة ونشر فكرة الوحدة، إن الاصلاح الحقيقي للإسلام لا يمكن  أن يتم مالم يرجع العلماء إلى حقيقة الدين ومالم تقبلها الجماعة بكاملها وتعيش وفقاً لها. لكن ماهي حقيقة الاسلام؟

هذا هو السؤال الذي انصب عليه تفكير الأفغاني انصباباً كاملاً، وإننا نجد في معالجته له عنصراً جديداً في التفكير الاسلامي: فالأفغاني لا يخاطب فقط إخوانه المسلمين لينقذهم من الأفكار الضالة التي غرقوا فيها منذ زمن طويل، بل يخاطب أيضاً من وراء الأمة عالم أروبا المتعلم. ويريد في آن واحد، هدم الآراء الخاطئة عن الاسلام التي تبناها المسلمون ودحض الانتقادات التي يوجهها إليه الأوروبيون.

الفصل السادس
محمد عبده

      وعلى خطى الأفغاني سار مفكر اسلامي آخر هو محمد عبده (1849- 1905)، إن محمد عبده فاق أستاذه الأفغاني انتظاماً في التفكير والوسع في المجادلة، إلا أنه لم يحقق نقلةً نوعية بالنسبة لتفكير الأفغاني، وإذا كان ثمة اختلاف  فهو ينحصر في المنهج أكثر مما في الجوهر، كان محمد عبده كالأفغاني يشعر بأن هناك انحطاطاً خاصاً بالمجتمعات الاسلامية، وأن هذه المجتمعات أحوج ما تكون إلى النهوض وإلى بعث الروح فيها، ورأى أن النبي لم يأت للدعوة إلى الخلاص الفردي فقط، وإنما ايضاً الى خلق مجتمع فاضل، وثمة سؤال ملح كان يعشش في ذهن الرجل هو: كيف السبيل إلى التوفيق بين ما ينبغي للمجتمع الاسلامي أن يكون عليه، وبين ما هو عليه في الواقع؟ وبأي معنى يمكن القول إن المجتمع الإسلامي لايزال مجتمعاً إسلامياً حقاً؟

       لقد كان محمد عبده حاسماً في الرد على هذا السؤال، إنه ينظر إلى تفسير الشريعة وكأنه السبيل الوحيد إلى إخراج المسلمين مما هم عليه، "إن الشرائع تتغير بتغير أحوال الأمم" إنها صرخة أطلقها محمد عبده، ونحن نجدها تتسلل إلى أغلب كتاباته، فالشرائع لكي تكون فعالة ( ومنها الشريعة الاسلامية) ينبغي أن تتصل بنحو ما بمقاييس البلد المطبقة فيه وبظروفه، وإلا عجزت عن القيام بمهمتها الجوهرية، وهي توجيه أعمال الانسان وتكوين عاداته وبطلت أن تكون شرائع أصلاً.

       ومع إقرار محمد عبده بأنه ينبغي الأخذ من المدينة الحديثة ما يفيد فقد كان هدفه الأثير هو تقوية الجذور  الخلقية في المجتمع الإسلامي، وإن هذا يتحقق في عدم الالتفاف إلى الوراء ووقف مسيرة التطور، إلى ذلك الاعتبار أن هذا التطور لا يجيزه الإسلام وحسب، بل من مستلزماته الضرورية  إذا ما فهم على حقيقته، وما يجدر ذكره هنا أن مهمة محمد عبده كانت في شقين، أولا: تحديد طبيعة وماهية الإسلام. ثانيا، النظر في مقتضياته بالنسبة إلى المجتمع الحديث. كان الهدف الأول هو الأهم، لا بل قد اعتبره أهم اهداف حياته.   

       وقد أدرك محمد عبده أن الشعوب الإسلامية لن تصبح قوية ومزدهرة إلا إذا اقتبست من اوروبا العلوم التي نتجت عن نشاطها العقلي، وبالتالي هذا الاقتباس يمكن تحقيقه بدون التخلي عن الإسلام، إذ إن الإسلام يحث على قبول جميع منتجات العقل، غير أن ذلك يقتضي تغييراً في مؤسسات المجتمع الإسلامي: في نظامه الشرعي، ومدارسه، وأساليب الحكم فيه.

الفصل السابع
الإسلام والمدنية الحديثة

       إن إعادة النظر في العقيدة والشريعة، كما يرى محمد عبده لم تكن أمراً لابد منه، كانت مؤلفاته تضبطها معرفته العميقة بالعلوم الاسلامية التقليدية، وأهم من ذلك شعوره الحاد بالمسؤولية تجاه الإسلام، إلا أنه كان من شأن الخطة التي اتبعها أن توقع في التجربة أولئك المفكرين من ذوي النزعة الجدلية الذين حرصوا على الدفاع عن سمعة الاسلام أكثر مما حرصوا على اكتشاف حقيقته وتوضيحها، ومثال على هذا النوع من الكتابات الجدلية كتاب محمد فريد وجدي: "المدنية والإسلام"، فالمؤلف وسائر الكتاب المنتمين إلى مدرسة محمد عبده اهتموا بأمرين خطيرين ومستقلين:

-       الاسلام بحقائقه وشرائعه الموحى بها من الله.

-        والمدينة بقوانينها المكتشفة بفضل علم الاجتماع.

ويبقى السؤال المطروح ما العمل عندما يظهر تناقض بين الاثنين؟

يجيب محمد عبده على هذا التناقض بقوله إن المدنية الحقيقية مطابقة للإسلام.

      ويذهب وجدي إلى القول أن القوانين المدنية هي نفسها قوانين الاسلام إذ لا تعارض وإن كانت هذه الفكرة جاءت تبعا لتصوره لحقيقة الإسلام، لقد اتجه فريق من أتباع محمد عبده في السنوات التي تلت وفاته وبتأثير من إلحاحه على جوهر الإسلام الثابت ومتطلباته المطلقة، اتجاهاً شبيهاً باتجاه "السلفية" الحنبلية، بينما قام فريق آخر بتحويل الحاحه على شرعية التغيير الاجتماعي إلى فصل الدين عن المجتمع واعتراف لكل منهما بقواعد خاصة به، ثم حاول المؤلف عرض تجربة قاسم أمين (1865-1908) الذي كان بدوره على نهج محمد عبده،       وقد انطلق قاسم أمين  من المسألة المألوفة: انحطاط الاسلام، أنه لا يرجع إلى الإسلام ذاته بقدر ما يعود إلى أسباب خارجة عنه مع أولئك الذين اعتنقوه وجلبوا إليه "عاداتهم وأوهامهم" ، وبالتالي هدموا النظام الإسلامي الأصلي للحكم الذي حدد واجبات الحكام والمحكومين، واستعاضوا عنه بحكم القوة العاتية، فتفشى في المجتمع بكامله احتقار القوي للضعيف وامتهان الرجل للمرأة، وبالتالي فهو يرى أن التربية التي تعطى للنساء والرجال غير ملائمة، كما لاحظ أن مكانة المرأة يجب أن يعاد النظر فيها، قد يبدوا هذا القول مجرد انتقاد لانحطاط الاسلام، بالأسلوب الذي جعله الافغاني شعبياً، لكنه في الحقيقة أكثر من ذلك في نظر قاسم أمين، انتقاد لا لمساوئ المدنية الاسلامية، بل للفكرة القائلة بأن هذه المدنية "مثال الكمال الإنساني"؛ وبما أن المدنية الاسلامية بلغت أوج نموها قبل نشوء العلوم الحقيقية، وبالتالي لا يمكنها أن تكون هذا المثال، فهي تفتقر إلى الأصالة الخلقية، وتشكو من النضج السياسي، فحكامها يمارسون سلطة غير مقيدة، إذ ليس هناك من دستور يكره الحاكم على احترام الشريعة. 

الفصل الثامن
القومية المصرية

       وقد نشأت في مصر بعد محمد عبده شريحة من المثقفين عاشت إلى فترة تناقضاً بين اتجاهين: اتجاه يتشبث بالتقليد، وآخر يتشبث بالعلمانية، إن هذه الشريحة، وهي تضم مثقفين تتلمذوا على يد محمد عبده، أخذت بالاتجاهين، وقد ربطت إنشاء المؤسسات الحديثة بتبني أفكار أوروبا، لكنها اشترطت ربطها بمبادئ الاسلامي التي هي، حسب تعبير الشيخ بخيت، "القانون السياسي المقبول من الجميع" ومع مرور الزمن أخذت هذه الشريحة تنحو منحى علمانياً مسقطةً من حساباتها (النزعة التقليدية المتحجرة) كما يقول البرت حوراني، والنزعة التقليدية المتحجرة هنا: هي نفسها- كما يراها المؤلف الذي يدعي الحياد- النزعة الاسلامية، على يد هذه الشريحة نشأت فكرة القومية المصرية، وكانت علاقة هذه الفكرة بالإسلام علاقة سرابية، إذ لم يكن بالمكان إدراكها والتعرف على ملامحها، والأمة المصرية التي هي عماد القومية المصرية كانت كوجود مستقل، تقتضي إنكار وحدة الأمة الاسلامية سياسياً، وأكثر من ذلك فإن هذه الفكرة طمحت إلى بناء مجتمع فاضل لا يتشابه مع ما طمحت إليه الشريعة الاسلامية والدين الإسلامي.

       وهذا التناقض بين الإسلام من جهة وفكرة القومية المصرية من جهة أخرى ولد أزمة حادة ترعرعت بين مفكري مصر إلى أن جاء الاحتلال البريطاني عام 1882؛ فقد عمد الانكليز إلى (دمج) النزعة الإسلامية العصرية في القومية المصرية.

إن تيار الفكرة القومية المصرية قادة رهط من الصحافيين والسياسيين بينهم اليهودي يعقوب صنوع والمسيحي السوري أديب إسحق بالإضافة إلى عدد من المصريين أمثال لطفي السيد وعبد الله النديم وسعد زغلول ومصطفى كامل، إلا أن الأخير كان الأبرز بين الذين نظروا لهذه الفكرة، لقد أطلق صرخته المشهورة وهي أن مصر جزء من أوروبا، علماً أن هذه الصرخة سبقه إليها الخديوي اسماعيل.

      سعى مصطفى كامل في كتاباته وخطبه- في سبيل تحقيق فكرة القومية المصرية- إلى تحقيق الوحدة داخل  المجتمع المصري، ولكن كيف بنظره، يمكن التوصل إلى هذه الوحدة؟... إنها الوحدة المرتكزة على "الشعور" بالانتماء إلى الأمة، ففي الوطنية يكمن سر القوة الأوروبية وأساس التمدن التي ينبغي أن ننهج نهجها، وفي هذا الصدد يقول مصطفى كامل: "وكل ما في هذه الديار من عدل ونظام وحرية واستقلال ونعيم عظيم وملك كبير هو لاريب من مبتدعات هذا الاحساس الشريف الذي يسوق أفراد أمة بأسرها إلى العمل لغرض مشترك ومطلب واحد"، وقد كان تراب مصر أرضية هذا الشعور وليس الدين أو اللغة.

      أحد المنظرين الآخرين لهذه الفكرة كان الزعيم المصري سعد زغلول، إلا أن أفكار سعد زغلول بقيت، على وجه الاجمال، مستلهمة من مدرسة محمد عبده، إلى أن انخرط انخراطاً تاماً في الحياة السياسية، كانت مصر تشكل بيضة القبان في تفكيره، وهي شيء محدد في المكان ومتصل في الزمان وفي مطالبته باستقلال مصر لم ينس مطالبته بالإصلاح، إذ المرافق في مصر هي أحوج ما تكون إلى هذا الاصلاح خاصة في التربية والقانون.

      ولاحظ زغلول أنه من الضروري إيجاد تشريع حديث مستلهم من مبادئ الفقه الإسلامي شرط أن يلي حاجات العصر، كيف ذلك؟ طبعا بالاستعانة بالقوانين التي تأخذ بها أوروبا.

الفصل التاسع
رشيد رضا

      ولنلتفت قليلاً إلى الوراء، إلى أفكار محمد عبده وجمال الدين الأفغاني لقد حطمت هذه الأفكار السدود متغلغلةً في البلدان الإسلامية كافة، مما خلق تياراً جارفاً يحمل هذه الأفكار، ومثل هذا التيار عدد من المصلحين الإسلاميين  في البلدان الإسلامية، رشيد رضا كان أحد أبرز هؤلاء.

      ولد رشيد رضا في قرية قرب طرابلس- لبنان عام 1865وتوفي بمصر عام 1935، وقد ثابر طيلة حياته الفكرية على الاتجاه الذي شقه له محمد عبده، أول ما يلفت عند هذا الرجل تقربه من تعاليم ابن تيمية وإعجابه بكتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي والحركة الوهابية في الجزيرة، إلى ذلك كانت له مواقف صارمة إزاء المتصوفين وطرقهم، إذ التصوف كما يقول، "دخل الإسلام لإفساد دين العرب وتقويض دعائم ملكهم بالشقاق الداخلي لتتمكن  تلك الجمعيات بذلك من إعادة ملك المجوس وسلطان دينهم اللذين أزالهما العرب بالإسلام"، والواقع أن فكر رشيد رضا لا يختلف في نواح جوهرية عن فكر سلفه محمد عبده، وكان يفرغ تأملاته وأفكاره في مجلته "المنار"، أضف أنه كانت له شروح كبرى للقرآن لنشرها في مجلته أيضاً وسماها "تفسير المنار"، وجملة القول أن الأفكار التي أفرغها في "المنار" ومؤلفاته العديدة تعتبر مصدراً مهماً لتاريخ الفكر العربي الحديث.

      لعب رشيد رضا دوراً بارزاً في الحياة السياسية في سويا، وذلك من خلال حزب اللامركزية وفي المفاوضات التي جرت أثناء الحرب مع البريطانيين، وكرئيس للمؤتمر السوري عام 1921، وفي اللجنة السياسية في القاهرة عند وقوع الثورة السورية عامي 1925- 1926 ولكن ماهي الأفكار التي كانت له؟

      إنه يبدأ بالسؤال: "لماذا البلدان الاسلامية متخلفة في كل ناحية من نواحي التمدن؟" ويجيب: "ينبغي أن يفهم المسلمون دينهم على حقيقته وفي الجوهر، وفي هذا فلاحهم"، وهو يرى أن أسباب التخلف في البلدان الاسلامية تكمن في أن المسلمين لم يولوا الاهتمام الكافي لحقيقة دينهم بتأييد ومباركة من الحكام المسلمين؛ إذ أن الإسلام الحقيقي يتشكل من أمرين: القول بالتوحيد، والشورى في شؤون الدولة، وقد حاول الحكام المستبدون حمل المسلمين على تناسي الاستبداد واعتباره أمراً معقولاً، وذلك بتخيلهم عن حقيقة الدين والشريعة، ولا عجب في أنه رأى قواسم مشتركة عديدة بين الإسلام والمدنية الحديثة، فما هي هذه القواسم برأيه؟  

    يقول رشيد رضا إنها السعي قبل كل شيء، فالجهد الايجابي هو جوهر الاسلام، وهذا هو معنى كلمة "الجهاد" في مفهومها الأشمل والأعم، ويتمثل رشيد رضا كالأوروبيين في عهود سابقة؛ ويمكن أن يعودوا إلى العزة التي كانوا يرتعون في ظلها، ويذهب المؤلف إلى أن رشيد رضا كان ذا حس سليم، وبسبب من هذا الحس السليم وجد أنه يفترض بالإسلام تحدي العالم الجديد، وأن يهل من المدنية الأوروبية في سبيل استعادة قوته، ولكي يبقى رشيد رضا منسجماً مع طروحاته فقد أكد في كتاباته أن الجهاد واجب على المسلمين، غير أنهم لا يستطيعون طالما هم ضعفاء، إذن ينبغي على المسلمين أن يستمدوا قوتهم من المدنية الأوروبية، ليجابهوها إلى ذلك طالب رشيد رضا بتعديل المذاهب الأربعة القائمة، وإيجاد مذهب واحد بديل وكانت دعوة رضا الدائمة هي وضع كتاب في الشرائع، يستند إلى القرآن والحديث، وينسجم مع متطلبات العصر.

      وقد أسهم رشيد رضا بوضع دراسة طويلة وشاملة عن الخلافة، وفي هذه الدراسة أظهر معارضته، بخلاف سائر المسلمين، لهذا الأمر لم يأخذ بعين الاعتبار الغاية من الخلافة، وهي تطبيق الشريعة؛ وبالتالي فالخلافة الأصلية ليست موجودة اليوم، ولذلك وجب إعادة بنائها وهذا لا يتم إلا على مرحلتين: الأولى إقامة «خلافة الضرورة» لتنسيق جهود البلدان الإسلامية ضد الخطر الخارجي، والثانية إقامة «خلافة الاجتهاد الصحيحة»، ولتحقيق هاتين المرحلتين لابد من بعض الشروط التي أولها إقامة علاقات حسنة بين العرب والأتراك، لأنهم يشكلون جميعاً دعامة العالم الاسلامي، أما الشرط الآخر وهو الأهم فيقضي بأن يعمل «أهل الحل والعقد» جميعاً من أجل إقامة الخلافة: « فالأمة كلها مطالبة (بنصب الامام الحق) وهي صاحبة الأمر والشأن فيه... وإنما يقوم به ممثلوها من أهل الحل والعقد... فأهل الحل والعقد هم المطالبون بجميع مصالح الأمة العامة ومسألة السلطة العليا خاصة... هم سراة الأمة وزعماؤها ورؤساؤها الذين تثق بهم في العلوم والأعمال والمصالح التي بها قيام حياتها وتتبعهم فيما يقررونه بشأن الديني والدنيوي منها».

الفصل العاشر
طلائع العلمانية (الشميل- فرح أنطوان)

       ومن المفارقات المدهشة أن أفكار المصلحين الاسلاميين التي دشنها الطهطاوي وثابر عليها الأفغاني وخير الدين ومحمد عبده ورشيد رضا، إن هذه الأفكار كان لها تأثير كبير في أوساط النخبة، خاصة في مصر والذي يثير الدهشة في الوقت نفسه، أن هذه النخبة كانت تتشكل من مسيحيين لبنانيين متمصرين، ولربما كان هؤلاء ينتظرون إشارةً للشروع في نشر أفكارهم ومعتقداتهم، كان بين هؤلاء بطرس البستاني وابنه سليم ويعقوب صروف وجرجي زيدان وفرنسيس مراش وفارس الشدياق، إلا أن الأبرز بين هؤلاء كان شبلي الشيمل وفرح أنطون.

كان شبلي الشيمل (1850- 1917) يعتقد أن العلم هو مفتاح لحل لغز الكون، لا بل نوع من العبادة وهي ليس فقط مجرد طريقة لاكتشاف النظام في ترابط الأشياء والموجودات، وكان مؤلفه الرئيسي ترجمة شرح بوخنر لأفكار دارون مع ملاحظات وإضافات من عنده، وكان أساس ذلك النظام فكرة وحدة الكائنات، ولطالما تساءل الشيمل: هل هناك ما هو أبهج وأنفع من معركة تحول المادة وقواها، والعلم بأن جميع الأشياء بالحقيقة شيء واحد؟ ويقول ألبرت حوراني: « لم يكن من قبيل الصدفة أنه أطلق على وحدة الطبيعة التعبير المستعمل في علم الكلام الاسلامي للدلالة على وحدة الله: التوحيد».

      يرى الشميل أن (الدين) العلم هو إعلان حرب على الديانات القديمة ولم تنشأ المسيحية- بنظره- إلا عن أنانية وعن حب السيطرة من قبل رؤساء الدين وأن وحدة المادة هي التي تحرر الانسان من غير الأنانية.

      أما فرح أنطون (1874-1922) فإنه يحل «النزاع» بين العلم والدين، إذ كان ثمة نزاع بتحديد الحقل الخاص لكل منهما فهناك قوتان انسانيتان مستقلتان: العقل والقلب ، ولكل منهما قواعد عمله ونطاق نشاطه وطرق إثبات حقائقه، إن العقل يستند إلى الملاحظة والاختبار، وحقله هو العالم المخلوق؛ أما القلب فيسلك طريق القبول بما تحويه الكتب المنزلة بدون أن يتفحص أساستها، ومواضيعه الخاصة إنما هي الفضائل والرذائل والحياة الأخرى، وما يتوصل إليه الواحد منهما لا يمكن للآخر دحضه، لذلك يجب أن يحترم الواحد الآخر، وأن لا يتجاوز الواحد حدود الآخر.

الفصل الحادي عشر
القومية العربية

       يرى المؤلف في هذا الفصل أنه لابد من التعريج ببضع صفحات على نشوء فكرة القومية العربية هو هنا يأتي بفهم مبتكر حول نشوء هذه الفكرة، إذ العرب لم يألفوا هذه العبارة أو الأحرى لم يطرقوا باب الطروحات القومية إلا حوالي منتصف القرن التاسع عشر، فإزاء مطالبة الأتراك بالخلافة رسمياً ثارت الحمية العربية، فتمخضت الفكرة القومية في الأذهان إنه العامل الوحيد، حسب المؤلف الذي أدى  إلى إطلاق فكرة القومية من عقالها وهناك أدلة تشير إلى أن هذه المطالبة كانت تلاقي في كل مرة ظهرت فيها موقفاً سلبياً لدى العرب الذين ورثوا تراث الثقافة الاسلامية، ولعل عبد الرحمان الكواكبي كان أول من (ابتكر) تعاليم تتوافق مع الفكرة القومية، حيث راح يروج لهذه التعاليم في عدد من البلدان العربية، والمؤلف هنا يذهب إلى تسطيح أو تحجيم عملية نشوء هذه الفكرة مرتبطة بمطلب أو حدث آني وظرفي ، لكننا نقول عكس ذلك، بأن فكرة القومية العربية جاءت لتلبي طموحات الانسان العربي الذي قرر الخروج من طور المفعول به إلى طور الفاعل في الحضارة الانسانية.                   لقد انصب الفكر والعمل القوميان العربيان، بعد أن جاءت حرب جديدة، فغيرت المعطيات السياسية من جديد، في البلدان التي نشطا فيها بقوة، أي في العراق وفي بلدان سوريا الجغرافية الأربعة، على ثلاثة أهداف رئيسية: الأول انتزاع مقدار أكبر من الحكم الذاتي من يد الدول المنتدبة، وذلك بإقامة التظاهرات، والقيام بثورات ظرفية، وبرفض التعاون، وبمناشدة وجدان انكلترا وفرنسا الليبرالي أو أنانيتهما الواعية، وكان الهدف الثاني محاولة الابقاء على فكرة الوحدة العربية حية في النفوس، تلك الوحدة التي كانت قائمة نوعاً ما في عهد العثمانيين والتي جاءت تهددها اليوم التقسيمات السياسية الجديدة، فقد كان من شأن هذه التقسيمات أن تؤدي لا إلى إقامة أنظمة إدارية وتشريعية وتربوية متباينة فحسب، وإنما إلى تجزئة الحركة العربية أيضا، وذلك بإلقاء مهمات مباشرة على عاتقها، تختلف الواحدة عن الأخرى بحسب المناطق، وكان الهدف الثالث، وهو غير منفصل عن الثاني، إثارة التأييد لعرب فلسطين في مقاومتهم للهجرة اليهودية وشراء الأراضي، وفي مطالبتهم بحكومة موحدة تكون أكثريتها عربية، كانت أهمية هذا الهدف قد برزت في مؤتمر القدس، وبالتالي أخذت تزداد بازدياد الهجرة اليهودية بعد 1933، وفي غضون نصف جيل، أي من 1908 إلى 1922، غدت القومية العربية فكرة سياسية واعية، ثم حركة لها برامجها، ثم اضطرت قبل حلول الاوان أن تختار، ثم رأت آمالها تتحطم، فاكتسبت من هذه الخبرة المريرة طريقة جديدة في التفكير، كان الغرض من تفكر رشيد رضا السياسي، منذ بدء حياته حتى نهايتها، إعادة بناء الدولة الاسلامية الحق، لقد عارض جميع المحاولات الرامية إلى إنشاء دول العالم الاسلامي تقوم على تضامن غير التضامن الديني، كالدول القومية التي تكون فيها الأمة هي موضوع الولاء الأخير، ويكون الشعور القومي هو القوة الموحدة، وتكون المصلحة القومية هي المقياس الأعلى للسياسة والتشريع.

      ويذهب رشيد رضا وشكيب أرسلان إلى القول بأن نهضة الأمة الاسلامية رهن بنهضة العرب، فالفكر الاسلامي لا يزدهر إلا إذا ازدهر اللسان العربي، إذ أنه اللغة الوحيدة التي يمكن فيها دراسة الاسلام دراسة حقيقية وتفسيره تفسيراً صحيحاً، لذلك كان واجب كل مسلم أن يتعلم اللغة العربية إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، وفضلاً عن ذلك لا يمكن أن تقوم وحدة عميقة في أمة ما، إن لم تكن موحدة اللغة، واللغة لا يمكن أن تكون في الأمة الاسلامية إلا اللغة العربية، وما من أحد غير عربي استطاع خدمة الاسلام إلا بمعرفته هذه اللغة التي هي خير المسلمين المشترك.

الفصل الثاني عشر
طه حسين

       ويخصص المؤلف بحثه الأخير للإطلال على فكر طه حسين (1889- 1973)، فيرى إلى أن مؤلفه

«مستقبل الثقافة في مصر»، الصادر في 1938 يحتوي على جملةٍ من الأفكار التي تشكل خطوطاً عامة لفكره.

كان طه حسين يتوق إلى مصر من طراز آخر، أو من نوعية أخرى تستند إلى "فلسفة المجتمع والتاريخ" استلهمها من انكبابه على دراسة ابن خلدون، إلا أنه استمد أسسها من مفكرين فرنسيين، أخصهم كونت ورينان دركهايم  وأناتول فرانس، ويذهب طه حسين الذي ثابر على الادعاء بأن مصر جزء من أوروبا إلى أن غاية الحياة البشرية هي الحضارة، وتعني سيطرة العقل على مفاصل الحياة والطبيعة، وهذه الحضارة تتحقق على مراحل عدة: في البدء يسيطر الدين والايمان الأعمى على حياة الانسان برمتها؛ ثم يستقل العقل عن الدين بعد صراع بينهما لحقبة من الزمن، وأخيراً يحصل توازن فيما بين الاثنين، فيسيطر كل منهما على حقله، وتفوق أوروبا الحديثة يراه طه حسين في ذلك التوازن الحاصل فيما بين العقل والدين، إذ لا تدخل لأي منهما في شؤون الآخر، فالعقل متروك له حكم المجتمع، بينما تنحصر مهمة الدين في ملء فراغ القلوب، وإرضاء العواطف، والتعزية في المصائب...ولكن لماذا تصنف مصر تاريخياً من ضمن العالم الشرقي؟

طبعا، إن طه حسين القادر على إلباس مصر لبوساً أوروبياً بشكل ما، قادر- وبشكل ما أيضاً- على الاجابة عن هذا السؤال. فكيف يجيب طه حسين؟ الإجابة عنده لا تقتضي بذل المجهود. فالقول بأن مصر تنتمي إلى العالم الشرقي إنما هو قول خاطئ وهو يعود لسببين: فثمة مصلحة مشتركة بين الدول الواقعة في آسيا وأفريقيا في التخلص من السيطرة الأوروبية، لكن هذه المصلحة المشتركة لا يمكن أن تشكل رابطة دائمة ضرورية لمدنية مشتركة. هذا السبب الأول، السبب الثاني هو الوحدة الدينية التي هي أيضاً لا تستطيع أن تكون أساساً لأسرة اجتماعية سياسية، هذه هي باختصار الخطوط العامة التي تتشكل منها أفكار طه حسين.

الفصل الثالث عشر
خاتمة: الماضي و المستقبل

       ويختم المؤلف هذا الفصل بوجود ثلاثة أنواع من القوميات، وهي أنواع متداخلة بحيث انبثق كل منها عن مبدأ يختلف عن الآخر وهي كتالي:

النوع الأول: القومية الدينية القائلة بأن على جميع أتباع الدين الواحد أن يكونوا جماعة سياسية واحدة، كانت هذه الفكرة بمعنى من المعاني الفكرة السياسية الأساسية التي هيمنت على هذه المنطقة منذ أن اعتنقت الامبراطورية الرومانية الدين المسيحي وغدا المعتقد الديني، شخصياً كان أم موروثاً الميزة التي بها يعرف الإنسان.

أما النوع الثاني: وهو القومية الإقليمية، فقد كان مألوفاً بالأخص في البلدان القديمة والمستقرة من أروبا الغربية، وهو كناية عن الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة من القاطنين رقعة محددة من الأرض والمتأصلي الجذور في حب هذه الرقعة، وكان هذا الشعور على أشده في تلك الأجزاء من الشرق الأوسط حيث يعيش في الرقعة الواحدة جماعة مستقرة فيها منذ زمن طويل وتكون لتلك الرقعة حدود واضحة وتقليد متصل من الكيان الإداري أو السياسي القائم بذاته، وكان هذا النوع من القومية يثير حيثما وجد ذكريات البلد وسكانه في العصور القديمة، وذلك لأن إعلان الانتماء إلى ماض قديم كان أحد السبل للتهرب من ماض أحدث، ولأن هذا الماضي الأحدث كان يمثل في معظم أجزاء المنطقة الاندماج في وحدات أوسع من القوميات، كالخلافة أو السلطنة العثمانية؛ إلا أن هذا النوع من القومية كان على العموم أضعف هنا مما كان عليه في اوروبا الغربية.

أما النوع الثالث: هو القومية العنصرية أو اللغوية القائمة على الاعتقاد أن جميع الناطقين بلغة واحدة إنما ينتمون إلى أمة واحدة، وبالتالي عليهم أن يشكلوا وحدة سياسية مستقلة، وقد حل هذا النوع محل النوعين الآخرين، أو امتصهما وعلى هذا أصبحت الفكرة القائلة بأن جميع الناطقين بالضاد يكونون أمة واحدة وعليهم أن ينشؤوا دولة واحدة أو كتلة واحدة من الدول القوة السياسية العظمى في البلدان العربية، وإن لم تتجسد في كيان سياسي.

       إن بروز فكرة القومية العربية بتلك القوة وذلك المنطق الظاهرين في كتابات ساطع الحصري كان أمراً نادراً، فقد كانت الفكرة العربية عند معظم المفكرين وفي برامج معظم الأحزاب السياسية والزعماء السياسيين ممتزجة بأفكار مستمدة من نوعي القومية الآخرين، فقد كانت القومية العربية في هذه الحقبة ذات أهمية بالغة في سوريا؛ إلا أن المطالبة بتوحيد جميع العرب كانت تتضمن المطالبة بإعادة توحيد سويا الجغرافية، على غرار ما كانت عليه قبل تقسيم العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ليست القومية نظاماً فكرياً، بل فكرة منفردة لا تكفي بحد ذاتها لتنظيم حياة المجتمع بأسرها، لكنها فكرة فعالة فكرة من ذلك النوع الذي يقوم بدور مركز الجاذبية بالنسبة إلى الأفكار الأخرى.

 

قيمة الكتاب:

       يعالج كتاب "الفكر العربي في عصر النهضة" لألبرت حوراني أزمة الحداثة والنهضة الأوروبية وكيف سببت صدمة نفسية وفكرية لدى المفكرين المسلمين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ والكتاب مكتوب من خلفية فكرية علمانية بحتة حاول من خلالها ألبرت حوراني أن يكون حيادياً أو هكذا زعم .
ومع ذلك فإن هذه الحيادية لم تكن كاملة النضج، فإن ألبرت حوراني أثناء بحثه العميق عن اللقاحات التي تلقح بها الفكر العربي الحديث يريد توصيل رسالة مبطنة إلى القارئ الغربي - الذي كتب له هذا الكتاب بالإنجليزية - مفادها أن الفكر الأوروبي هو الذي حرك مياه الفكر الإسلامي الراكدة ولولا ذلك لبقى الفكر الإسلامي في تخلف؛ لذلك فإن كل النماذج التي حللها و درسها حوراني في الكتاب لها تعلق بالفكر الغربي بداية من الطهطاوي انتهاءً في أخر الكتاب بطه حسين ، ولكن الشاهد ها هنا أن كل تلك النماذج لم تكن على مسافة واحدة من الفكر الغربي، لذلك يؤخذ على ألبرت حوراني عدم النظر في الجوانب الإسلامية البارزة في الطهطاوي مثلاً مقارنة بما ذكره تدليلاً على ليبراليته !! فمن المستهجن جداً أن نصنف رفاعة الطهطاوي كليبرالي، وإن  وُجدت فيه بعض البذور الليبرالية فهو حاول أن يوفقها بشكل أو بأخر مع الإسلام.

الرصد العميق الذي كتبه ألبرت حوراني لتطور الفكر العربي يمكن أن تسجل عليه عشرات الصفحات التي تخالفه فيها ، ولكن الحق يُقال إن دراسة حوراني في مجملها دراسة جيدة ، ورغم كونه نصرانياً إلا أنه على اطلاع جيد على الثقافة الإسلامية ، فهو كتاب بعيد تماماً عن السطحية باستثناء تقييمه لسعد زغلول أو السلطان العثماني عبد الحميد الثاني او حكومة العملاء الاتحاد والترقي ومدحت باشا؛ فكل هؤلاء وغيرهم كان تقييمه لهم مخلاً .
من عيوب ألبرت حوراني هنا أنه قد يعطيك حكماً تقييمياً دون تحليل ولا ذكر للأسباب التي دفعته لهذا الحكم؛ من ذلك مثلاً اعتباره أن حركة الإخوان المسلمين أقرب إلى الحركة القومية منها إلى الحركة المهدية أو الوهابية، ويرى أن هدفها توليد الزخم الشعبي للاستيلاء على الحكم لا لإعادة حكم الفضيلة الإسلامية؛ وبغض النظر عن مدى صوابية حوراني في هذا الأمر فإنه ترك لنا هذا القول كأنه شيء بديهي أو منطقي دون أن يدلل عليه؛ كذلك أيضاً قوله أن محمد عبده أراد أن يبني حائط ضد العلمانية فإذا بأفكاره تتحول لقنطرة تعبر عليها العلمانية؛ وهنا أيضاً لم يبرهن على هذا وإن كنت أرى صحة هذا باعتبار ما وليس في المطلق.

 

ملاحظات ونقد:

- في دراسة حوراني هناك بقايا أثر للاستشراق، مع أنه -حسب قوله- لا يحب تعبير الاستشراق، ويعتبر نفسه مؤرخاً اجتماعيًّا وفكريًّا، يستخدم المقاييس الأوروبية الغربية في دراساته، ويرى أن معظم الدراسات التاريخية المهمة حول العرب هي ذات مصدر أوروبي وأمريكي.

ومن ملامح أثر الاستشراق في دراسة حوراني، تعقُّب الكشف عن تأثيرات الفكر الأوروبي في ساحة الفكر العربي، وفي المفكرين العرب، وكيف أثر فيهم وفي مجتمعاتهم، وكيف غيَّر من نمط علاقتهم بالدين والثقافة والأخلاق التي يعتقدون ويتمسكون بها.

وهذه الملاحظة طالما كانت موضع عناية واهتمام المستشرقين الأوروبيين، ظهرت وتجلت في الكثير من أعمالهم ودراساتهم، وباتت من الملامح والسمات الكاشفة عنهم، والمعرفة بهم، والمميزة لهم.

وقد وقفت على هذه الملاحظة في دراسة حوراني، وتتبعتها، ووجدت أنها تكررت مرات عدة، وفي مناسبات مختلفة، ومن هذه المرات، الاقتران الذي أشار إليه حوراني بين مدرسة الشيخ محمد عبده وعنايتها بفكرة التربية، وبين كتاب الفرنسي إدمون ديمولان (1852-1907م)، الموسوم بـ(سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الصادر سنة 1897م، وحسب قول حوراني: «كان من المألوف في مدرسة محمد عبده القول بأن الوسيلة الفعالة الوحيدة للنضج القومي، والاستقلال الحقيقي، إنما هي التربية، وقد وجدت هذه الفكرة في أواخر القرن، تأييداً قويًّا لها في كتاب فرنسي أصبح الآن منسيًّا، لكنه أحدث ضجة كبيرة في ذلك الحين هو «مصادر تفوق الأنجلو سكسون» لديمولان».

ومن هذه المرات أيضاً، حديث حوراني عن تأثر لطفي السيد ورفاقه بالتفكير الأوروبي، وحسب قوله: «إن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوروبي، الأول هو التفكير الذي عبر عنه، بطرق مختلفة، كل من كونت ورينان ومل وسبنسر ودركهيام، الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه، بحكم سنة التقدم الذي لا يعكس ولا يقاوم، نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل، واتساع أفق الحرية الفردية، وازدياد التخصص والتشابك، وحلول العلاقات القائمة على التعاقد الحر، والمصلحة الفردية محل العلاقات القائمة على العادات والأوضاع الراهنة، والثاني هو تفكير غوستاف لوبون الذي جذب إليه المفكرين العرب، عرضاً، لثنائه الجمِّ على العرب لمساهمتهم في المدنية»، ووجهة النظر في هذه الملاحظة، أنها تضع الفكر العربي والإسلامي في موضع المتأثر والتابع، وفي موقع الفرع والطرف، وتضع في المقابل الفكر الأوروبي في موضع المؤثر والمتبوع، وفي موقع الأصل والمركز، وهذه واحدة من ركائز السياسات الثقافية للاستشراق الأوروبي.

- امتزج في دراسة حوراني التاريخ الثقافي بالتاريخ السياسي، وطغى في بعض الحالات التاريخ السياسي على التاريخ الثقافي، وحصل ما يشبه الإسهاب والاستغراق في بعض التفاصيل السياسية، التي كادت تظهر الكتاب بغلبة الطابع السياسي عليه، وبالشكل الذي يخرجه عن كونه كتاباً في التاريخ الثقافي، أو ما بين الثقافي والسياسي.

ومن الحالات التي ظهرت فيها مثل هذه الملاحظة، وتغلبت، حديث حوراني عن سعد زغلول (1857-1927م)، والإسهاب في التفاصيل السياسية، وهكذا عند الحديث عن القومية العربية، التي توسع في الحديث عنها شارحاً التاريخ السياسي العربي آنذاك، بنوع من الإسهاب والاستغراق، الذي يناسب كتاباً في السياسة والتاريخ السياسي، وليس كتاباً في تاريخ الفكر العربي.

ولعل أقرب تفسير لهذه الملاحظة، يتحدد في أمرين، الأمر الأول له علاقة بالجانب الفني، والأمر الثاني له علاقة بالجانب العلمي. في الجانب الفني يرجع إلى كون أن بعض فصول كتاب حوراني هي في الأصل محاضرات، وقدمت على صورة محاضرات، في جامعات عربية وبريطانية، والإسهاب والاستغراق في التفاصيل، يحصل عادة في المحاضرات الشفهية، وبشأن الجانب العلمي، يرجع إلى كون أن حوراني كان أستاذاً للتاريخ، وتاريخ الشرق الأوسط الحديث تحديداً، الأمر الذي يجعل من الممكن حصول مثل ذلك الإسهاب والاستغراق في التاريخ السياسي.

- اعتبر الدكتور عبدالإله بلقزيز أن حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة)، شدد من جهة في اعتبار الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً، وأخرج من جهة أخرى الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير، وإدخاله في خانة الفكر السلفي.

وهذا ما انتقده بلقزيز، وليس صحيحاً في نظره أن الفكر الليبرالي العربي وحده الذي عرف منسوباً من العقلانية والتنوير، من دون سائر تيارات الفكر العربي الأخرى، ويرى بلقزيز أن في العقود الثلاثة الأخيرة، صدرت دراسات حاولت أن تعيد رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي المعاصر، بالانفتاح المنهجي على سائر نصوصه وتياراته، وتصحيح الرؤية الأيديولوجية الناحية منحى إقصاء الفكر الإصلاحي الإسلامي من رحاب العقلانية، بفرض النظر إليه بوصفه لحظة من لحظاتها، ومن أهم هذه الدراسات عنده كتاب فهمي جدعان (أسس التقدم).

هذا الرأي يستدعي النقاش من جهتين، الجهة الأولى هناك شك في مقولة: إن حوراني اعتبر الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً، والأقرب أنه درس تاريخ الفكر العربي بصورة عامة في العصر الليبرالي الأوروبي، ولم يكن بصدد دراسة تاريخ الفكر الليبرالي العربي، أو النظر إلى الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً.

الجهة الثانية: هناك إرسال في القول بأن حوراني أخرج الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير، وأدخله في خانة الفكر السلفي! ولم يذكر بلقزيز شواهد ودلائل توثق رأيه، وتبرهن عليه، وهذا ما جعل قوله أقرب إلى الإرسال منه إلى البرهان.

- عندما نظر فهمي جدعان لكتاب حوراني، وجد أن هذا الأخير ظل يتحدث باستمرار عن المسيحيين، وبنوع من العناية والاهتمام، متقصداً التنويه بهم، والإشارة إليهم، مُلمِّعاً صورتهم، ومُذكِّراً بإسهاماتهم وإنجازاتهم الفكرية والأدبية والسياسية، وهذا ما أثار حفيظة جدعان ونقده وامتعاضه، وشكَّل دافعاً له نحو العمل على إنجاز كتابه (أسس التقدم)، الذي تقصَّد أن يخصصه لأعمال مفكري الإسلام، مبرزاً هذه الأعمال، وحاصراً عمله بعيداً عن أعمال المسيحيين العرب.

لكن المفارقة الغريبة والمحيرة، أن جدعان الذي بذل جهداً واضحاً في البحث عن أعمال المفكرين المسلمين، وجامعاً نصوصهم التي تتصل بقضية الترقي والتقدم والتمدن والنهضة والإصلاح والفلاح والحضارة والعمران وغيرها، وجمع كمًّا كبيراً من هذه النصوص، التي تنسب إلى أشخاص من مشرق العالم العربي ومغربه، لمثقفين ومفكرين وأدباء ورجال دين، حاصراً هذه الأعمال والنصوص في نطاق المسلمين السنة، ومتغافلاً كليًّا عن أعمال ونصوص المسلمين الشيعة، لا شك في أن هذه مفارقة غريبة ومحيرة، ما كان جدعان بحاجة إلى الاقتراب منها، والاحتكاك بها، والوقوع فيها، وما كان بحاجة إلى مناقشته والاحتجاج معه بشأنها، وهو الذي تحرك في كتابه بدافع إنصاف مفكري الإسلام، الذين لم ينصفهم حوراني كما ينبغي حسب ظنه، والسؤال: لماذا لا يكون الذي يتحرك بدافع الإنصاف منصفاً مع غيره من المسلمين الآخرين، الذين وضعهم في خانة الخفاء والنسيان، كل ذلك حصل من دون الإشارة إلى تفسيرات بينة وواضحة.

وعند البحث عن تفسير ممكن لهذه الملاحظة الغريبة والمحيرة، وهذا التفسير لم يرد في كتاب (أسس التقدم)، لكنه ورد في كتاب آخر لجدعان، هو كتاب (الماضي في الحاضر)، وتحديداً في الموضوع الذي ناقش قضية (نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر)، الذي تتبع فيه جدعان نظريات الدولة عند شريحة من الكتَّاب العرب المسلمين المعاصرين، وقبل أن ينهي البحث اعتبر جدعان في الهامش، أن «لا مكان للخوض في هذا البحث، في نظرية الشيعة في الدولة، لأن المفكرين العرب المسلمين الذين يدور عليهم هذا البحث، ينتمون جميعاً إلى العالم العربي الذي هو عالم سني».

 

تعليقات